TOP

جريدة المدى > عام > فاضل السلطاني شاعر الترحال والبحث عن الذات

فاضل السلطاني شاعر الترحال والبحث عن الذات

نشر في: 21 ديسمبر, 2025: 12:02 ص

شريف الشافعي
كاتب وصحافي
يأبى الشاعر العراقي فاضل السلطاني في تجربته الممتدة على مدار أكثر من 40 عاماً أن تسرقه غربته، فلا ينفك يؤسس تواصله الخاص مع أعماق الذات وفضاءات الخارج من خلال القصيدة المتمردة التي يسكنها وتسكنه، وعبر الترجمة التي يتحسس بها ظلال الآخر، في عالم لا شيء فيه يبدو مكتملاً. "اندبندنت عربية" التقت السلطاني في حوار مفصل ينطلق من صدور مختاراته الشعرية "عند منتصف الذاكرة"، ويمتد إلى تصوراته في شأن الكتابة والارتحال، ومواجهة الواقع الراكد بالحلم والخيال والشغف بالتغيير.
غادر الشاعر فاضل السلطاني العراق عام 1977 إلى المغرب، ومنها بعد عامين إلى الجزائر، ثم إلى سوريا عام 1985، قبل أن ينتهي به المقام الأخير في لندن منذ عام 1994. وقد جاءت مختاراته الشعرية الصادرة حديثاً عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد بعنوان "عند منتصف الذاكرة"، متضمنة نصوصاً تعود لما قبل الارتحال، وخلال محطات الاغتراب المتتالية، وهي منتقاة من مجموعاته الشعرية "ألوان السيدة المتغيرة" و"لا أحد يعود" و"محترقاً بالمياه" و"النشيد الناقص" وغيرها.
يحتفي السلطاني في سلسلة دواوينه بما يمكن تسميته شعرية التقاطعات، على مستوى الأزمنة والأمكنة، فهو يضم الماضي والحاضر والمستقبل في لحظة واحدة مشحونة بالوعي الكثيف، ويحتوي شتات الأمكنة في نقطة مشتركة هي مركز الذاكرة. هو ينشد العلاقة، لا القطيعة، مع ذاته والآخر والعالم حتى وهو يكابد محنة التمزق النفسي والاغتراب الجغرافي والوجودي. وانطلاقاً من هذه الرغبة في البقاء على صلة وثيقة بالحياة والأحياء على رغم كابوسية المشهد المحيط، فإن السلطاني، الدارس للأدب الإنجليزي والحاصل على الماجستير في الأدب المعاصر، في ترجماته المتنوعة أيضاً لإليوت ووليم تريفور وتوني موريسون وميروسلاف هولوب وغيرهم، ينخرط في الجدليات والحوار الإيجابي منحازاً إلى القيم الإنسانية والفنية المجردة في ذلك الصراع التاريخي والأخلاقي الذي لا ينتهي بين القبح والجمال، والحب والحرب، والنور والظلام، ذلك أنه "طوال الحياة، ظلت الأغنية، تتشبث بالجدران"، كما يقول في قصيدة له.
"يعود الجنود من الحرب"، وينجبون بنات "يلون النباتات ويلهون بالعصافير حتى يمرضن من الحب"، ثم "يعود الجنود للحرب" من جديد، وهذا العالم المتقاتل المتصارع من حولنا لا يتغير. لكأن الشاعر فاضل السلطاني يتحدى قبح العالم ببحثه عن الجمال، ليس فقط عند منتصف الذاكرة، وإنما في الذاكرة كلها؟ أهو كائن الشعر، الحقيقي والخرافي معاً، الذي يبقي الأمل دائماً نافذة مفتوحة في جدار الدموية والكراهية والسواد؟
في حديثه لـ"اندبندنت عربية" يجيب السلطاني، موضحاً "أؤمن بأن الجمال سينقذ العالم يوماً ما، ولو بعد قرون. هو صراع تاريخي وأخلاقي مرير بين القبح والجمال، منذ هوميروس إلى آخر شاعر، ومن ثرفانتيس إلى آخر روائي. صحيح أن القبح هو الغالب الآن، وقد يستمر طويلاً، كما هو واضح، متجسداً في حروب مجنونة هنا وهناك، ومجازر وإبادات جماعية، وتوحش رأسمالي، وصعود شعبوية جاهلة، وتسطيح وتفاهة، لكن هذا الوضع المريع لا يمكن أن يستمر طويلاً، لأنه لا مستقبل له سوى البربرية".
"البربرية على الأبواب"، ليست صورة شعرية، ولا عبارة مجازية، بل حقيقة صارخة، يضيف السلطاني، بل إنها فعلاً على أبواب عصرنا، الذي فقد إلى درجة مريعة ضميره الأخلاقي، وكأن حركة التنوير الكبرى، التي بشرت بقيم الحرية والحق والعدل والمساواة، قد اختفت من سجل التاريخ. ومع ذلك، فإذا انعدم الإيمان بإمكان تغيير ما هو قائم، وإمكان "فتح نافذة في جدار الدموية والكراهية والسواد"، وفق السؤال، لانتفى معنى الكتابة. الإبداع الحقيقي المقرون بالحلم والخيال والشغف بتغيير العالم لا يقبل الاستقالة أمام الوقائع الصلدة لهذا التاريخ، وإلا ما كتب هوميروس ودانتي ودوستويفسكي وتولستوي وييتس وإليوت، وغيرهم ممن حملوا على أكتافهم مسؤولية الكون والعالم.
وبسؤاله، عطفاً على ما سبق، عن انتقائه "عند منتصف الذاكرة" عنواناً لمختاراته الشعرية، وهل يمكن للذاكرة أن تمنح الإنسانية وجوداً آخر أو ولادة ثانية "بعد 20 موتاً"، لتنبت الأرض أرضاً، ويلبس الوجه وجهاً جديداً؟ يجيب السلطاني بقوله "هناك ما يسميه هارولد بلوم: ظلال الذاكرة، بمعنى أن ذاكرتنا ليست مرآة ناصعة، نرى من خلالها الماضي كما هو. ولا ينطبق هذا على الماضي فحسب، بل على المستقبل أيضاً، فالمستقبل له ذاكرة مستمدة من ذاكرة الماضي، أو على ما رأينا في الماضي".
وفي الحالتين، يستطرد، هذه الرؤية ناقصة غالباً، فلا شيء يبدو مكتملاً، كأننا نرى أنصاف الأشياء، ونصف التجارب الشخصية، والاجتماعية والنفسية. كأن العربة تتوقف بنا في منتصف الطريق، ولا يبقى في الذاكرة سوى نقطة التوقف في المنتصف. لنقل إن الذاكرة المقصودة هي ذاكرة غير مشبعة، لم تمتلئ تماماً، لأن التجارب لم تشبع تماماً. إنها تصل إلى منتصفها ثم تجهض لأسباب مختلفة.
وفي رحلته الطويلة البعيدة، لا يزال فاضل السلطاني يقف على نهر بابل، يبكي عشباً وطيراً ونباتاً وسمكاً وماء ومراكب وصيادين. فإلى أي مدى يستشعر الاغتراب المكاني والنفسي والوجودي كمقيم في الخارج منذ سنوات طويلة؟ وهل يرى ملامح خاصة يمكن تسميتها في الشعر العربي المهجري الراهن، إذا جاز هذا التعبير في الأساس؟
يوضح السلطاني أن الغربة الإجبارية، وهي غربة كثير من المثقفين العرب الآن، مختلفة تماماً عن الغربة الاختيارية، التي عرفها أهل الشام، خصوصاً اللبنانيين الذين هاجروا إلى الأميركيتين (الشمالية والجنوبية) في ما بين 1870 حتى أواسط 1900، أمثال جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة وغيرهم، وأسهموا من هناك في تطوير الأدب العربي.
الغربة الإجبارية، يقول، تفتقد إلى عنصر الحرية، وهو الأساس في أي مسعى إلى تحقيق شيء ما. تسرق هذه الغربة الوطن والأهل والأصدقاء، وتقطع تطور المبدع الطبيعي. إنها تسرق أرضيته الصلدة التي يمكن أن ينطلق منها، أو يسقط رأسه عليها إذا سقط، إذ إن ارتفاعه أو سقوطه محكومان بعوامل جديدة عليه، يصنعها آخرون غريبون تماماً، وهو مجرد ضيف طارئ عليهم. إنها ليست أرضيته مهما وقف عليها سنوات، كما أن التاريخ ليس تاريخه، مهما عرفه نظرياً.
إن "وطن" المنفي الجديد، يضيف السلطاني، لا يمكن أن يدخل في نسيج روحه، ويتسرب إلى شرايينه مهما حاول. فات الأوان لتغيير جلده، أرضيته وتاريخه هناك، في وطن غائم يحتل ذاكرته، ويغزو مسامات دمه على رغم منه. أما ما يخص السؤال في ما إذا كانت ملامح خاصة في الشعر العربي المهجري الراهن، فلا يعتقد السلطاني أن هناك ملامح يمكن أن تشكل شعراً مهجرياً جديداً، على غرار ما حققه جبران ونعيمة وزملاؤهما، فالبنى والأساليب والمضامين والأشكال مختلفة تماماً، وما يكتب في الخارج امتداد طبيعي للأدب الذي يكتب في الداخل، وهما يشكلان وحدة واحدة. الفرق الوحيد أنه يكتب خارج الوطن، إذ تغيرت الجغرافيا فقط.
يظل الشاعر ثائراً دائماً، حتى "من مقعده النائي في الكون"، فالتجديد الشعري هو التمرد والانفلات وكسر أفق التوقع. ومن جانب آخر، فالثورات العربية التي مضت تتلاحق على أرض الواقع أعادت تشكيل ذائقة الكتابة الشعرية والإبداعية عموماً، وذائقة التلقي لدى الجمهور. كيف يجد فاضل السلطاني ذلك التفاعل أو تلك العلاقة بين "ثورة القصيدة" بالمعنى الجمالي المجرد، و"قصيدة الثورة"، بمعنى انخراط الإبداع مباشرة في الفعل الحي والميداني؟
يشير السلطاني إلى أن سنة الربيع العربي 2011 كانت فارقة نسبياً في التاريخ العربي المعاصر، مهما اختلفنا في أسباب أحداثها ومساره ومآله، فقد كانت نهاية مرحلة، وبداية أخرى، إن لم يكن في الواقع، ففي الوجدان والذهن، شيء ما تشكل في الأعماق. وربما يكون الدرس الأهم هو أن الإنسان المهزوم، المسحوق، قادر على اقتحام السماء. ويقول "أعتقد أن الثيمة الكبرى التي ستهيمن على معظم النتاج المعرفي العربي في القادم من الزمن ستنطلق من وعي هذه الحقيقة، التي قد لا تكون وضحت صورها بعد، ولكن هذه هي مهمة الأدب بالضبط، أن يكشف لنا عما لا نراه، ويستخرج ما تحت السطح إلى ضوء الشمس، مشكلاً رؤانا ووعينا ووجداننا من جديد، وبالتالي يمنحنا ولادة جديدة".
أما في ما يخص " قصيدة الثورة"، فيرى السلطاني أنها تسمية ملتبسة، فكل قصيدة جيدة هي قصيدة ملتزمة، وقصيدة ثورة، وكل أدب جيد هو أدب ملتزم، وأدب ثورة، بالمعنى العميق، وليس بالمعنى المباشر الفج. وما يهم هو مدى ملامسة كتاباتنا للجوهر الإنساني الشامل. فالأدب الرديء يسيء للقضية التي يدعي أنه يدافع عنها، كما قال ماركيز مرة.
لا تزال تتردد مقولات كثيرة في شأن عزلة الشعر النسبية في الآونة الأخيرة، وتوجهه النخبوي أو المتعالي صوب دوائر التلقي الضيقة، لا سيما في ظل تكلس قصيدة النثر وتكرار تجاربها وتنميطها في أطر مجانية استسهالية، وسيادة أنساق إبداعية أخرى أكثر جماهيرية وانتشاراً مثل الرواية.
وبسؤال فاضل السلطاني عما قد ينقص الشعر لكي يعود "فن العربية الأول" خبزاً للمائدة، ولكي لا يكون هناك "مقعد فارغ في أمسية شعرية"؟ يقول موضحاً "للإجابة عن هذا السؤال، أذكر بعض التجارب في بريطانيا، إذ لا يزال للشعر جمهور كبير، وللشعراء حضور واضح مقارنة بالروائيين، ولا تزال قاعات الأمسيات الشعرية ممتلئة المقاعد. ففي يوم الشعر الوطني في بريطانيا في إحدى السنوات، طير المنظمون حماماً زاجلاً في سماء لندن وهو محمل بالقصائد في تجربة مبتكرة هي الأولى من نوعها في العالم. ولم يكتفوا بذلك، بل طبعوا أبيات شعر على محافظ تذاكر القطارات لتستقر في جيوب المسافرين".
ويضيف السلطاني: طارد المنظمون حتى أولئك الناس المشغولين بجوالاتهم الذكية، طالبين منهم أن يبدأوا رسائلهم لأصدقائهم وأحبائهم ببيت شعر، بدلاً من "شكراً" و"آسف" و"أحبك". واشترك الأطفال أيضاً في قراءات ومسابقات شعرية. والأجمل، هي تلك الفعاليات التي نظمت وقت الإفطار في مطاعم وفنادق في العاصمة البريطانية. فهل هناك في الدنيا أجمل من أن تفتتح يومك على صوت فتاة عذب يقرأ لك قصيدة من كيتس أو تشيلي أو بايرون أو إليوت أو تيد هيوز؟ وقد توجت هذه الاحتفالات بقراءة الأمير آنذاك فيليب تشارلز، الملك لاحقاً، قصيدة للشاعر الأيرلندي شيموس هيني، ومعظم هذه الفعاليات كانت تنقلها "بي بي سي" عبر قنواتها المتعددة إلى كل مناطق بريطانيا. والدرس واضح "إذا لم يذهب الناس إلى الشعر، فليذهب الشعر إلى الناس".
تبدو الترجمة، من العربية وإليها، في حالة ارتباك، لندرة المؤسسات الحكومية والرسمية التي تتولى شؤونها وتدعمها، وزهد دور النشر الخاصة في نشر المترجمات، وغياب الاستراتيجيات والمشاريع المحكمة في شأن الترجمة، وقلة المترجمين المتمرسين وضعف أجورهم، وغياب قوانين حقوق المؤلفين والملكية الفكرية، وأمور أخرى كثيرة.
بسؤال فاضل السلطاني في ضوء خبرته في هذا المجال، عن رؤيته حول سبل النهوض بالترجمة، خصوصاً من العربية إلى لغات أجنبية، لتعزيز التواصل مع الآخر، يشير إلى أن الترجمة تبدو وقد انتعشت نسبياً في الفترة الأخيرة، إذ ترجمت إلى العربية كتب كثيرة، وغالباً عن اللغات الأصلية، في الفكر والفلسفة والثقافة عموماً، ولو أن الرواية تجيء في أعلى القائمة. وغالب هذه الترجمات صدرت عن دور خاصة، مثل المدى وخطوط وظلال وتكوين والجمل والمتوسط وغيرها. وجاءت معظمها بمبادرات من مترجمين مجتهدين وشغوفين، لا يتقاضون في أحوال كثيرة ما يتناسب مع جهودهم. ويبقى غياب قوانين حقوق المؤلفين والملكية الفكرية، المشكلة الأكبر. ولكن حصل بعض التطور في ما يخص هذا الجانب، بخاصة بعد انتشار الإنترنت، فبدأت بعض دور النشر العربية تحرص على شراء حقوق النشر من المصادر الأصلية.
أما في ما يخص ندرة المؤسسات الحكومية والرسمية، التي تتولى شؤون الترجمة وتدعمها، فيرى السلطاني أن يقتصر دور هذه المؤسسات على الدعم فقط، كما يحصل في الغرب، من خلال مجالس الفنون والآداب، إن وجدت، والمؤسسات الأهلية، وتسهيل حركة الكتاب والمنتج الثقافي عموماً، لا أن تتولى شؤون الترجمة، إذ ستدخل هنا الاعتبارات السياسية والرقابية، والمزاجية والانتقائية.
ويختتم فاضل السطاني حديثه لـ"اندبندنت عربية" في شأن ما يتعلق بسبل النهوض بالترجمة، من العربية إلى لغات أجنبية، لتعزيز التواصل مع الآخر، قائلاً "علينا أن ننسى ذلك، لأنه لا توجد مثل هذه السبل. فلقد حقق أدب يشبهنا هو أدب أميركا اللاتينية اختراقاً عالمياً منذ الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ليس لأن هناك سبلاً ساعدت في انتشاره، لا حكومات ولا مؤسسات، بل بفضل الأدب وحده. ولم يكن وراء نجيب محفوظ سوى رواياته فقط. فعلينا أن ننسى الترجمة، والركض وراء وهم اسمه العالمية. ولنحقق اختراقاً في أدبنا نحن، وبعدها، سيترجم العالم كله لنا".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

صلاح عباس: على مدى تاريخ الحقب الصدامية لم يشكل فن الحرب ظاهرة مميزة مثلما موجود في العالم

الفلسفة ركيزة اساسية للذكاء الإصطناعي

الدكتور سامي سعيد الأحمد.. مدونات التاريخ القديم بين وضوح المنهج ودقة التوثيق

موسيقى الاحد: موتسارت الاعجوبة

فاضل السلطاني شاعر الترحال والبحث عن الذات

مقالات ذات صلة

كريم السعدون.. شاعر اللون وصوت الإنسان في فضاء التشكيل
عام

كريم السعدون.. شاعر اللون وصوت الإنسان في فضاء التشكيل

اميرة ناجي يقول الفنان العالمي فاسيلّي كاندينسكي: "اللون هو قوة تؤثر مباشرة في الروح."، وهذه المقولة تكشف جوهر التجربة التشكيلية التي يعتمدها كريم السعدون، إذ تتعامل أعماله مع اللون بوصفه طاقة وجدانية وروحية تتجاوز...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram