علي حسين
( كل الاحبة يرتحلون
فترحل شيئاً فشيئاً من العين ألفة هذا الوطن )
أمل دنقل
كنا قد قررنا أمس – الثلاثاء – أنا والصديق علاء المفرجي ان نذهب الاسبوع المقبل الى الحلة برفقة الصديق ستار الحسيني لزيارة الاستاذ ناجح المعموري ، ولم يخطر ببالنا ان نقرأ صباح اليوم ان الاستاذ قد رحل عن عالمنا بعد معاناة مع المعرض ، رافقها ألم الجحود ونكران الجميل من بعض الذين مد لهم يد العون والمحبة طوال مسيرته الثقافية .
مات الاستاذ الذي كان يحمل مزيجاً من اصالة الكاتب ووطنية المثقف ، وإحساس الفنان المرهف ، واستقامة ومبدئية النهج والمنهج ، وعطاء العارف ، والايمان بالثقافة ، وإعلاء قيمة العقل . هذه الخصال وغيرها جمعها بجسده الذي خذله المرض وعقلة الذي ظل مستيقظاً حتى اللحظات الأخيرة ، وروحة الشديدة النقاء ، ووطنيته التي لم يساوم عبيها يوماً .
رحل الاستاذ في زمن اختلطت فيه المصالح بالمبادئ ، وغيب فيه صوت المثقف المدافع عن قيم الحضارة والعلم والمعرفة ، المثقف الذي يصوغ عقل القارئ ، ويدافع عن ثوابت الوطنية ، ولا تستطيع الانتهازية بكل جبروتها ومغرياتها ان تجعله يتخلى عن مواقفه .
كان ناجح المعموري نموذج فريد من المبدعين الذين تعددت مواهبهم وتنوعت اهتماماتهم . بدأ النشر في القصة القصيرة التي تتابعت منذ ان اصدر « اغنية في قاع ضيق عام 1969 إلى أن تحول للرواية عام 1978 عندما اصدر رواية « النهر « ، ثم اخذه النقد الثقافي والدراسات المثيولوجية والبحث عن مصادر الاساطير في ثقافتنا ، حين اصر في سنواته الاخيرة الى ترسيخ اهمية الذاكرة في حياة الشعوب .
من القصة القصيرة الى الرواية الى الدراسات الثقافية ، يترك لنا ناجح المعموري علاماته المتميزة ، هذا التنوع هو أول ما يلفت الانظار الى هذا الانسان الذي لم تفارقه الابتسامة يوماً رغم كل المحن ، فإلى جانب الحساسية الفنية التي ترافق الروائي ، هناك النظرة النقدية الثابتة التي تتابع كل جديد ، طوال سنوات كانت مقالات المعموري في صحيفة المدى تطارد كل ما هو جديد في حقول الثقافة العراقية ، تبشر بالمتميز وترشد المتعثر ، وتقدم بمحبة من يستحق التقديم ، من نقد ادبي الى نقد فني ، ومن الغرام بالرواية الى الهيام بالدراسات الثقافية ، ومن تشجيع من يستحق التشجيع الى منازلة المتغطرسين ثقافياً. انه التعدد الذي كان يبدو ناجح المعموري من خلاله نهماً في الخوض بكل فروع الثقافة ، وفي التعرف على كل مجالات الابداع الإنساني . ولذلك كان الاستاذ يدهش القراء وهو ينقلهم من اسطورة كلكامش الى الحفر في اعمال جواد سليم ، ومن اكتشاف يوميات محمد موفق ، إلى اسطورة عشتار ، التي اعقبتها الدراسات المتميزة للاساطير حيث ساهم من خلالها في تشكيل تيار جديد من الابداع في الثقافة العراقية .
منذ ان جعل ناجح المعموري عنوان دراسته الاولى « موسى واساطير الشرق « ومرورا بـ « اساطير الالهة في بلاد الرافدين « و « أقنعة التوراة « ، وليس انتهاء بالحديث عن المسكوت عنه في ملحمة كلكامش ، كان فيها الاستاذ يساهم مع طليعة من النقاد والدارسين في تأسيس العناصر التكوينية لمنهج يدرس علاقة الاسطورة بالادب والفن والتاريخ وحياة البشر .
كان الايمان بالثقافة والوطن يتجلى في كل كتابات ناجح المعموري ، وهو المعيار الذي تشكلت منه افكاره ، ومكنته من قراءة الماضي بعمق ، واستشراق المستقبل .
مشوار طويل شقه الباحث والكاتب والانسان ناجح المعموري بالإصرار والمثابرة والاهم بالمعرفة حتي حقق ما اعتقد أنها أحلامه وما تيقنا نحن محبيه انها احلام الكبار عبر مؤلفات ، كتبت بحرارة الحس والقلب، من دون التفلسف الذي يفسد على الكاتب حيويته.
تعود الاستاذ أن يشارك المقربين منه مشاريعه واحلامه الثقافية ، لكنه هذه المرة كان وحيداً ، لم يشاركه احد همومه واحزانه بعد ان فقد زوجته ورفيقة دربه ، ليغدر به المرض ، ويتربص به الموت تاركاً احلامه ومشروعاته الكبيرة ،مفارقاً عالمنا الغادر الى العالم الذي سبق أن رحل اليه رفيق رحلته الثقافية موفق محمد لربما يردد معه : « كل الحياة مجازةٌ ..والموت ليس له إجازه « .. ، مخلفا لنا وحشة الفراق وذكرى استاذ عاش نقياً محباً للحرية ، تاركاً وراءه سيرة مضيئة يجب أن نتوقف جميعا امامها باحترام كبير .
قال الروائي كازنتزاكي لزوجته في أيامه الأخيرة وعيناه الفاحمتان المدورتان غارقتان في الظلمة ومليئتان بالدموع: «أحسّ كأنني سأفعل ما تحدّث عنه برجسون: الذهاب الى ناصية الشارع ومدّ يدي للتسول من العابرين: زكاة يا إخوان، ربعَ ساعة من كل منكم.. ما يكفي فقط لإنهاء عملي وبعدها فليأتِ شيرون، ناقل أرواح الموتى».
في غياب الأستاذ

نشر في: 28 ديسمبر, 2025: 12:04 ص









