TOP

جريدة المدى > عام > مآثر فوق التصوّر

مآثر فوق التصوّر

نشر في: 29 ديسمبر, 2025: 12:09 ص

صلاح نيازي
أدناه مقتبسات متباعدات أشبه ما تكون بلوحات توحدها إنسانيتها.
اللوحة الأولى- عشبة كلكامش.
في هذه الملحمة يذهب كلكامش بعد أنْ أمضّ به القلق من الموت إلى «اتو نفشتم» الخالد، عسى أن يعطيه سرّ الخلود. لم يُعطه السرّ، ولكن دلّه على عشبة البحر التي تعيد له الشباب. وجدها فعلاً في المكان المعلوم. بيت القصيد أن كلكامش لم تصعد برأسه النشوة.
نزع عن نفسه الأنانية، وراح يفكّر بأهل بابل. لا بدّ أن يشركهم معه.
قال كلكامش:
«إنّ هذا النبات عجيب
يستطيع المرء ان يستعيد به نشاط الحياة
لأحْمِلنّّه معي إلى أوروك ذات الأسوار
وأُشرِِك معي الناس كي يأكلوا منه
وسيكون اسمه: «يعود الشيخ إلى صباه (كالشباب)»
لكنّ كلكامش في ذلك الآن كان قد هدّه التعب، فنام قرب البحيرة
وألى جنبه العشبة العجيبة.
في تلك اللحظات ظهرت أفعى والتهمت العشبة، وكأنما بهذه الفعلة
بات الشرّ خالداً ومتجدداً.
رجع كلكامش إلى أوروك مكسورا.
***
الفلاح الإغريقي:
استعنت في كتابة هذه الخلاصة الصغيرة عن هذا الفلاح الاغريقي، التي تفوق شهامته كلّ شهامة
في مسرحية «يوروبيدس» ، ولا سيّما العلاقة الزوجية الغريبة بين هذا الفلاح و»إلكترا»
ترجمة موسس هداس وجون ماكلين ( Bantam books)
ترجمة فيليب فلاغوت ( Penguin Books).
بعد عودة «أغاممنون» منتصراً في حروب طروادة، تآمرت زوجته عليه مع عشيقها فقتلاه.
أكثر من ذلك قررّ العشيق عدم تزويج إلكترا من أحد النبلاء خشاة أن تنجب أطفالا نبلاء فيقتصوا ويثأروا لأغاممنون.. هكذا بخبث قرر تزويجها من فلاح لا على التعيين.
إلا أنّ الفلاح بحكمة فطرية ردّ الكيد إلى نحر العشيق، فتزوجها زواجاً شكلياً، ولم يمسسْها.
المعروف أن يوروبيدس يقدم الأبطال التقليديين والأسطوريين كأناس عاديين في ظروف غير عادية.
قال عنه أرسطو: "أكثر الشعراء مأساوية".
تبدأ مسرحية الكترا أوّل ما تبدأ، بشخصية الفلاّح الذي تُرك بلا آسم.
(المشهد خارج كوخ الفلاح. إنها ليلاً. قبل شروق الشمس بقليل)
ليس من باب الصدف ان يفتتح المسرحية فلاح مجهول الاسم. في الظاهر لا أهمية له اجتماعياً.
مع ذلك، فلولاه لتغيرت المسرحية تماماً.
كان الفلاح يعيش بكوخ منعزل، فهل انتشر مقتل أغاممنون بكلّ بقعة، وبتفاصيل دقيقة.
قلنا إن هذا الفلاّح زُوِّج من الكترا. ولكنّه لم يدخل بها، وظلت في عهدته عذراء. كان زواجاً صُوريّاً.
قال الفلاّح في مطلع المسرحية:
"كان الملك يخاف من أيّ زوج لأكترا إذا كان أميراً
لأنّ ابنها سيثأر لأغاممنون
لذا حجزها في البيت ولم يدعْ أيّ شخص من الزواج منها".
في هذه الأثناء طرأ خوف آخر على الملك ماذا لو تزوجت الكترا بالسر
من رجل ينحدر من الطبقة الأرستقراطية؟ لذا قرّر قتلها.
يستمر الفلاّح في الحديث عن علاقته بألكترا:
"أنا زوجها ولكنْ أقسمُ بأفرودايت
انني لم اقترب من فراشها
إنها ما تزال عذراء
كان والدها ملكاً ولست نظيراً له
إنه لعار عليّ أن أستغلّ حالتها"
وافق الزوج على ان تعمل زوجته أهون الأفعال، بالبيت قائلاً لها برفق ورقّة:
"كلمات تقية وأيدٍ كسولة لا تجلب فطورا"
***
أوّل قصيدة روائية:
من التعبيرات النقدية العربية مصطلح :»خشب الشعر»، ويقصد به ما قاله الشاعر كما جاءه عفواً. قيل في هذا الباب خشب جرير، خير من تنقيح الفرزدق.
كذلك الحطيئة أحد أخطر المواهب الشعرية في الأدب العربي. قوله خالٍ من أيّ بهرج ومجرد من أيّ تحاسين بلاغية، أو تزايين جمالية.
تنبت القافية في قصيدته كما ينبت الغصن في الشجرة.
الحطيئة إلى ذلك لا قبله ولا بعده في تصوير الجوع وفي تصوير الحسّ الإنساني النادر. الإشارة هنا إلى قصيدته:» وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل».
التوقيتان الدقيقان في هذه القصيدة هما مجيء الضيف، وما من قوت لإطعامه، وعطش قطيع من حمار الوحش. بهذين التوقيتين خلق هذا الشاعر أهم حالة: ترقب لدى القارئ أو (السامع). وبهذه الصفة يمكن القول إن الحطيئة جمع بين فني: الشعر والقصة. في نص واحد، وهذه صيغة شعرية سبقت الشعر الأوروبي.
ما يهمنا هنا هو إنسانية هذا الشاعر فوق- بشرية.
أولى النقاد، إنْ قديماً أو حديثاً، هذه القصيدة النادرة، دراسات نقدية شتّى فتناولوها وزناً وقافية، ومعنى ومبنى. مع ذلك لم تُعْطَ مكانتها العالمية.
لكنْ ما يهمنا هنا أين تكمن إنسانية هذا النصّ ومن ورائه الشاعر؟
مهّد الشاعر لهذه القصيدة بتصوير الجوع، كما لم يوصَفْ من قبل. «وطاوي
ثلاث»، لدرجة شدّ البطن. وحتى يقطع كلّ أمل من النجاة من غائلة الجوع، جعله «ببيداء لم يعرف ساكن رسما» تزداد المأساة عمقاً، بوجود ثلاثة صغار،
آستحالوا إلى ما يشبه البهم. بهذا التوقيت يظهر شبح فإذا هو ضيف.
بلغت حيرة الأب ذروتها. فإذا بالابن يقول لأبيه: "أيا أبتِ اذبحني ويسّر له طعما»
(في الأنشودة الثالثة والثلاثين لدانتي رأى الأولاد الأربعة أباهم يعضّ يديه فحسبوا أنه يأكلها جوعا، فقالوا ليتك تقتاتنا فإنك أنت الذي ألبستنا هذا اللحم البائس»
بهذا التوقيت عنّت عانة (قطيع من بقر الوحش).
وهنا بيت القصيد لم يفقد الأب صوابه، وإنما تجلّت إنسانيته كأفضل ما تكون فآنتظر القطيع :» إلى أن تروّتْ عطاشها»، ليرسل بعد ذلك سهمه.
***
الحمامة المطوقة:
للشاعر اليمان بن أبي اليمان صاحب قصيدة: «ناحت مطوّقة بباب الطاق»، التفاتة إنسانية لا يسعها القلب. مع ذلك اختلف رواتها في نصّها، وما الأسباب التي دعت إلى نظمها. ليس من همّ هذه المقالة تحقيق النصّ، فله أكاديميّوه.
النصّ أدناه اجتهاد شخصي. فإذا صحّت هذه الطريقة، فبها ونعمت.
أوّلاً كان اليمان كفيفاً، قيل مرّ بسوق الغزل بباب الطاق ببغداد، فسمع نوح حمامة مطوّقة، فحزن.
لم يكن لديه ما يكفي لابتياع هذه المطوّقة، فراح يستجدي الناس إلى أن كمل ثمنها، فاشتراها، وأطلقها حرّة طليقةً.
ثمّ جاءت قصيدته الدامعة:
«ناحت مطوّقة بباب الطاقِ
فجرت سوابق دمعيَ المُهَراقِ
ما فجّر عاطفة الشاعر الإنسانية، كما يبدو أسر هذا الطائر المطوّق، وأفراخها اليتامى بلا قوت.
يقول الشاعر:
«كانت تفرّخ بالأراك وربما
كانت تغرّد في فروع الساق
فُجِعت بأفراخها فأسبل دمعها
إن الدموع تبوح بالمشتاقِ»
مما يجعل هذه القصيدة تأخذ مكانها اللائق، اولاّ حيرة الشاعر التي تمثلت بكلمة «ربما»
كانت تفرّخ، وربما كانت تغرد».، وبهذه الحيرة توسعت الصورة الشعرية.
ثانيا الحرف الذي كرره الشاعر وأصبح علامته الفارقة هو حرف القاف. وهو أشبه ما يكون
بغصة جارحة كما في سورة الحاقة. تلاوة مصطفى إسماعيل النادرة.
ومما زاد من جمال القصيدة ، حسناً على حسن ، أن القصيدة كُتبتْ على بحر الكامل:
وهو من أكمل الأوزان:» كمل الجمال من البحور الكامل، متفاعلن متفاعلن متفاعلُ»
***
الغزالة المرضعة
الحكاية التالية عن الغزالة المرضعة والرحمة الإنسانية. وهي تُروى بعدة صِيَغ،
أهمها فنّياً، أن أميراً سورياً ذهب مع حاشية له لصيد الغزلان. ولكن حينما عادوا
بالصيد لاحظ الأمير، أنّ إحدى الغزالات، كانت لا تنفكّ تتلفت يميناً ويساراً. قلقة
وكأنها في محنة. لا تستقرّ على حال. انتبه الأمير، وقال لحاشيته: يبدو أن هذه الغزالة أمّ مرضعة، لذا قررتُ إطلاقها.
هبّ الجميع بصوت إنساني واحد: ها نحن نطلق بقية الغزلان. كانت الرأفة عامة والرحمة أوسع.
نُسبتْ هذه القصة إلى ساسان في الجزء الثاني من ألف ليلة وليلة ص 10وذكر أسامة بن منقذ شيئاً مشابهاً ونسبه إلى الخليفة عبد الملك بن مروان.
نسبة القصة إلى فرد واحد، كما في المثلين الأخيرين يقلل من أهميتها. بينما وجود الحاشية وقد اتفقوا من دون اتفاق يدلّ على عاطفة إنسانية كامنة في النفوس.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

بروتريه: عبد الستار ناصر.. السارد الذي حكى سيرته بشجاعة

انت تتجنب الاختلاط بالآخرين ؟ هنا مكمن قوتك

فاضل السلطاني يسبر وقائع الانهيار الثقافي

تركات ضاجّة ..

الكاتب أكيرا ميزوباياشي: "تعرض والدي للتعذيب وسوء المعاملة، لكونه من دعاة السلام"

مقالات ذات صلة

مآثر فوق التصوّر
عام

مآثر فوق التصوّر

صلاح نيازي أدناه مقتبسات متباعدات أشبه ما تكون بلوحات توحدها إنسانيتها. اللوحة الأولى- عشبة كلكامش. في هذه الملحمة يذهب كلكامش بعد أنْ أمضّ به القلق من الموت إلى «اتو نفشتم» الخالد، عسى أن يعطيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram