محمد الربيعي
في العراق، وبعد الانتخابات الأخيرة، لم يعد السؤال الأهم هو من سيكون رئيس الوزراء المقبل أو من أي جهة سياسية ينتمي، بل كيف سيواجه الخراب الذي صنعه نظام غارق في الفساد. لقد أثبتت التجارب أن الانشغال بالصراعات الشخصية والانتماءات الحزبية لم يحقق سوى المزيد من الانهيار، وما يحتاجه العراقيون اليوم هو قيادة تمتلك الجرأة لاقتلاع اللصوص من جذورهم، لا الاكتفاء بترديد الشعارات.
اول هذه التحديات هو الاقتصاد، الذي لا يمكن ان يبقى رهينة تقلبات أسعار النفط وحدها. المطلوب هو تنويع مصادر الدخل، دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، معالجة البطالة، لكن قبل كل شيء محاربة الفساد الذي اصبح سرطانا ينهش جسد الدولة. الفساد ليس مجرد اختلاس او رشوة، بل منظومة متكاملة من المحسوبية والصفقات المشبوهة التي تسرق قوت الناس وتمنع اي إصلاح حقيقي. والأسوأ ان هذا الفساد قد تسلل الى القضاء نفسه، بحيث تتحول أي خطوة لصالح الشعب الى قرار معطل أو حكم مسيس، مما يجعل الإصلاحات مجرد حبر على ورق. رئيس الوزراء المقبل مطالب بأن يضع استراتيجية صارمة لمكافحة الفساد، تبدأ بالشفافية في العقود الحكومية، مرورا بتقوية الأجهزة الرقابية والقضائية، وصولا الى محاسبة كبار الفاسدين بلا استثناء. من دون هذه المواجهة، سيبقى أي إصلاح مجرد كلام فارغ.
لكن الاصلاح الاقتصادي والخدمات لن ينجحا ما لم يكسر الطوق الطائفي الذي يخنق مؤسسات الدولة، وما لم تستاصل جذور المحاصصة التي حولت الوزارات الى حصص حزبية وطائفية بدل ان تكون مؤسسات وطنية تخدم الجميع. الاخطر من ذلك هو هيمنة الميليشيات على الحياة السياسية والاقتصادية، وهيمنة السلاح غير الشرعي على القرار الوطني. لا يمكن للعراق ان ينهض ما لم تفرض سيادة القانون بشكل صارم، وما لم تستعاد هيبة الدولة عبر حصر السلاح بيدها وحدها. رئيس الوزراء المقبل مطالب بان يواجه هذه المعضلة بلا تردد، وان يضع حدا لتغول الجماعات المسلحة التي عطلت التنمية وحولت العراق الى ساحة صراع بالوكالة.
الى جانب ذلك، هناك ازمة وجودية تهدد حياة العراقيين: ازمة المياه وشحها. العراق الذي كان يوما مهد الحضارات الزراعية اصبح اليوم يعاني من نقص المياه الصالحة للشرب وتراجع الاراضي الزراعية بسبب سوء الادارة وتدخلات الدول المجاورة في حصصه المائية. رئيس الوزراء المقبل يجب ان يجعل ملف المياه اولوية وطنية، عبر التفاوض الحازم مع دول الجوار، الاستثمار في مشاريع تحلية المياه ومعالجة شبكات الاسالة، وتبني سياسات رشيدة لادارة الموارد المائية. فالماء ليس مجرد خدمة، بل اساس الحياة وامن الانسان.
ولا يمكن فصل ازمة المياه عن ازمة الصحة والخدمات الاساسية. الكهرباء والماء الصالح للشرب والرعاية الصحية ليست ترفا، بل حقوقا اساسية يجب ان تصان. العراقيون سئموا من العيش في بلد غني بالموارد لكنه عاجز عن توفير ابسط مقومات الحياة. المطلوب هو خطة واضحة لاصلاح البنية التحتية، وتطوير المستشفيات والمراكز الصحية، وضمان وصول الخدمات الى كل مواطن بلا تمييز.
وفي موازاة ذلك، يبقى اصلاح التعليم والتعليم العالي قضية مصيرية. لا يمكن بناء دولة حديثة من دون نظام تعليمي قوي، ولا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة من دون جامعات قادرة على انتاج المعرفة وتخريج كفاءات تنافس في سوق العمل. لقد كتبت سابقا عن هذا الموضوع في مقالي "هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟"، واكدت ان التعليم العالي هو العمود الفقري لاي اصلاح حقيقي. المطلوب اليوم هو اعادة هيكلة الجامعات، تحديث المناهج، دعم البحث العلمي، وربط التعليم بسوق العمل، حتى لا يبقى شباب العراق اسرى البطالة او الهجرة.
اما السياسة الخارجية، فان العراق بحاجة الى نهج متوازن يحفظ سيادته ويمنع تحويله الى ساحة صراع اقليمي او دولي. المطلوب هو تعزيز العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع الدول العربية والجوار الاقليمي، لكن مع الوقوف بحدة امام اي مصالح غير مشروعة او محاولات للهيمنة من قبل الدول المجاورة. العراق يجب ان يستعيد قراره الوطني المستقل، وان يضع مصلحة شعبه فوق اي حسابات خارجية.
في النهاية، ما يريده العراقيون من رئيس الوزراء المقبل ليس مجرد وعود او خطابات، بل خطة تنفيذية واضحة بجدول زمني ومؤشرات قياس يمكن محاسبة الحكومة عليها. العراق بحاجة الى قيادة تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، وتعمل على تحويل التحديات الى فرص للنهوض، بعيدا عن الحسابات الضيقة والانقسامات الطائفية والهيمنة الميليشياوية والفساد الذي عطل مسيرة الاصلاح لعقود.










