TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تحولات الدولة العراقية: من الانقلابات إلى المحاصصة

تحولات الدولة العراقية: من الانقلابات إلى المحاصصة

نشر في: 31 ديسمبر, 2025: 12:01 ص

حسن الجنابي

(1)
لعبت الصراعات الإيديولوجية أدواراً مصيرية في تاريخ العراق الحديث تجاوزت حجم الصراعات الاجتماعية والاقتصادية الطبيعية في بلد كان يخرج ببطء من إرث طويل من الحكم العثماني. وحدها الحقبة الملكية، في عقدَي الدولة الأولين، تميّزت بحراك سياسي أقرب إلى البراغماتية منه إلى الإيديولوجيا، وكانت قضايا السيادة والحدود والتحالفات الدولية الجديدة هي محرك السلوك السياسي للنخبة. وما عدا انقلابي بكر صدقي 1936، وحركة الضباط الأربعة عام 1941، لم تكن قد ظهرت بوضوح الانقسامات العقائدية العالمية التي تلت الحرب العالمية الثانية.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت التوترات الدولية تنعكس في الداخل العراقي بصورة لا تتناسب مع مستوى تطور المجتمع. وبرزت صراعات وانقلابات واحتجاجات ومحاكمات سياسية صادمة مثل إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي عام 1949. ثم تراكمت موجات الاحتجاج والقمع وصولاً إلى إسقاط النظام الملكي في 1958 عبر حركة الضباط الأحرار، التي حظيت بشعبية واسعة حينها، لكنها أيضاً أسهمت في بقاء الباب مفتوحاً أمام سلسلة طويلة من الانقلابات والاغتيالات والتقلبات، بدءاً من محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1959 إلى انقلابي في شباط وتشرين الثاني عام 1963، ثم مقتل عبد السلام عارف، وصولاً إلى انقلاب البعث عام 1968 الذي انتهى واحداً من أكثر الأنظمة دموية في العالم.
تَمتْرس حكم البعث بالقوة الغاشمة والهيمنة الأيديولوجية الصارمة على المجتمع، وأغلق الباب أمام أي تغيير محتمل من داخل النظام. وحين أطيح به في عام 2003، بدا وكأن العراق قد "تحرر" واتجه نحو حكم جديد كان ينبغي أن يكون أرقى وأكثر عدالة. غير أن التجربة سارت بمسار متعثر، وثبت بأن إسقاط النظام بقوى خارجية لم ينتج صيغة حكم متماسكة ومقبولة شعبياً. وسار الانتقال السياسي باتجاهات توافقية شكلية، ابتعدت عن جوهر المواطنة لصالح ابراز الهويات الثانوية، وصارت عرفاً "مقبولاً" لأنه يدرّ مغانم سياسية فئوية كبيرة!
(2)
وجدت القوى والشخصيات التي عارضت ببسالة حكم البعث نفسها بعد 2003 أمام إغراءات السلطة. ولم تكفِ القيم الأخلاقية والوطنية التي نشأت عليها لتكون كابحاً طبيعياً لمنع توظيف الدولة للمصالح الفئوية. وانزلقت العديد من القوى إلى المحاصصة وتوزيع النفوذ والأملاك، وبرزت فئات أثرت ثراءً طفيلياً فاحشاً دون أي مساهمة تنموية فعلية بعيدة عن الاستحواذ على مقدرات الدولة والاملاك العامة، إذ فتحت خزائن الدولة وأملاكها للنهب، وتوزعت المناصب والامتيازات على أسس الانتماءات الفرعية. وهكذا شُجّعت الهويات الصغرى –الطائفية، العشائرية، المناطقية– لتصبح بديلاً عن الهوية الوطنية الجامعة، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الدولة وفتح الباب أمام جماعات سياسية ومسلّحة ترى في الدولة القوية تهديداً وجودياً لها.
ومع غياب المعارضة الحقيقية داخل النظام التوافقي، صار البرلمان ساحة لتشريع المغانم وليس لحماية الصالح العام. ولم تسمح طبيعة التوافق بظهور زخم تشريعي يسعى إلى تقليص نفوذ الأحزاب الجديدة والتحالفات الظرفية الطارئة، وأفرز هذا المشهد السياسي أحزاباً تستند إلى الولاء العشائري والطائفي والعائلي، يقودها زعماء تنتقل إليهم السلطة داخل الحزب كما ينتقل الإرث في الأسرة. أما التيارات الوطنية العابرة للهويات فقد فقدت بريقها تحت وطأة شبكات النفوذ والمال والقدرة على استخدام العنف أو التلويح به، إضافة إلى تحالفات القوى الجديدة مع قوى إقليمية ودولية ومع طبقات اقتصادية تقطف ثمار الدولة المنهكة. وهكذا تغوّلت قوى داخلية لديها موارد مالية ضخمة: من المنافذ الحدودية ومن المطارات إلى عقود الغذاء والوقود وصولاً إلى الأراضي والمزارع والمشاريع التجارية.
تزامن ذلك مع ضعف هائل في أجهزة تطبيق القانون، وبقاء جزء كبير من التشريعات القديمة ساري المفعول يستخدم بطريقة انتقائية، فضلاً عن صدور قوانين جديدة استُخدمت أيضاً بانتهازية سياسية، كما حدث مع قوانين اجتثاث البعث، وقوانين الشهداء والسجناء السياسيين، وتعويضات مخيم رفحاء التي أصبحت محل جدل عميق بسبب عدم اتساقها مع معايير العدالة الاجتماعية في بلد يزداد فقراً.
(3)
هذه الفوضى في الداخل انعكست مباشرة على تمثيل العراق الخارجي، إذ تكررت حالات تغليب الانتماء الحزبي على الانتماء الوطني في إدارة العلاقات الخارجية. فشهدنا مسؤولين يتجنبون إعلام سفاراتهم بالزيارات الرسمية، أو يعقدون اجتماعاتهم مع الدول الأخرى بمعزل عن ممثلي الدولة الرسميين، في مشهد يعبّر عن حجم الهشاشة والسيولة السياسية التي أضعفت سيادة العراق ومكانته الدولية.
يعبّر ذلك لا شك عن تراجع الانتماء الوطني لحساب الانتماءات الطارئة التي تقدم مصالحها الجزئية على مصلحة الدولة. وهذه الهويات المنفلتة، على الرغم من "قدسيتها" لدى أصحابها، تبقى تاريخياً أدنى بكثير من الهوية الوطنية الجامعة. كما أن مصيرها نفسه مرهون بمصير الدولة؛ فإذا ضاعت الدولة ضاعت تلك الهويات كلها معها.
واليوم، وفي ظل الصراع المستمر على المكاسب والمناصب، وعودة المجتمع إلى الاحتماء بالعشائر والطوائف في غياب دولة القانون، تبدو وزارة الخارجية –مثل غيرها من الوزارات– غير قادرة على النأي بنفسها عن تأثيرات الانقسامات الداخلية. فلا يمكن لسياسة خارجية متماسكة أن تنشأ من بيئة سياسية مضطربة في الداخل، ويستحيل ترسيخ السيادة الوطنية دون ترسيخ رؤية دولة موحدة.
وحيث تستمر الدعوات لتغيير ترتيبات ما بعد 2003 القائمة على المحاصصة، وتفشل الانتخابات المتكررة في إنتاج بديل قادر على بناء دولة مستقرة، يبقى العراق محكوماً بإشكالات داخلية لا يمكن أن تنتج سياسة خارجية واضحة ومؤثرة ما لم يُحسم شكل الدولة أولاً، ويعاد الاعتبار للهوية الوطنية الجامعة، ويُعاد بناء مؤسسات الدولة على أسس الحياد والكفاءة والقانون.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: ليلة اعدام ساكو

رئيس الوزراء القادم.. هل يمتلك جرأة المواجهة مع "الفساد والسلاح"؟

العمود الثامن: دعاء برلمان 2026

العمود الثامن: ب.ب وعصر الفخامات

هل العراق قادر على اللحاق بالرَّكب الرقمي؟

العمود الثامن: من الجادرجي إلى هيبت !!

 علي حسين لم يكن كامل الجادرجي وجعفر أبو التمن ومحمد حديد وحسين جميل ومحمد رضا الشبيبي مجرّد نواب يحفلون بالمواقف الوطنية، بل كتباً غنية لحقبة من الزمن الصح. كانوا جميعاً يريدون دولة تقوم...
علي حسين

قناطر: كوارث السنة المنتهية

طالب عبد العزيز في مراجعة بسيطة لأحوال العراق خلال سنة 2025 التي توشك أن تلتحق بما مضى من أعمارنا؛ لا نجدُ أفقاً مضيئاً، ولا بصيصاً في (نهاية النفق)- يا لهذه الجملة الحقيرة- لأن البلاد...
طالب عبد العزيز

أهم عشرة أحداث في العالم لعام 2025

باسكال جوليارد ترجمة :عدوية الهلالي - دونالد ترامب، العودة المدوية – منذ عودته إلى البيت الأبيض في كانون الثاني لولاية ثانية، اتخذ الجمهوري دونالد ترامب سلسلة من الإجراءات تماشياً مع مبدأ "أمريكا أولاً» منها...
باسكال جوليارد

تحولات الدولة العراقية: من الانقلابات إلى المحاصصة

حسن الجنابي (1) لعبت الصراعات الإيديولوجية أدواراً مصيرية في تاريخ العراق الحديث تجاوزت حجم الصراعات الاجتماعية والاقتصادية الطبيعية في بلد كان يخرج ببطء من إرث طويل من الحكم العثماني. وحدها الحقبة الملكية، في عقدَي...
حسن الجنابي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram