اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > العصا والجزرة في الثقافة أيضاً

العصا والجزرة في الثقافة أيضاً

نشر في: 12 أكتوبر, 2012: 05:23 م

سياسة العصا والجزرة يمكن أن تمتد إلى الثقافة أيضاً. وأول العناصر التي تسمح لممارسيها بتفعيلها هو هشاشة الوضع في ثقافة بلدٍ ما، أي عندما تكون مؤسساته الاجتماعية والسياسية والثقافة مصابة بالعطب، وعندما لا تستطيع المنظمات المدنية الدفاع عن المثقفين وحمايتهم إنسانياً وأخلاقياً ومالياً. ثاني العناصر هو تفتت اللحمة وغياب الحنان والتقدير بين مثقفي البلد أنفسهم، وشيوع الأوهام والإشاعات بل الإلغاء والتهم والظلم على نطاق واسع. ثالث العناصر ينجم عن العنصرين السابقين: الإفراط في تضخُّم الذات الثقافية التي تعتقد أن لها، في هذا السياق، الأفضلية على أقرانها للحضور والشيوع والانتشار بكل وسيلة لتتذوّق انطلاقا من "الانعكاسين الشرطيين" أعلاه لذة المجد الأدبيّ.
سيتفق كثير من الأدباء أن هذه العناصر الثلاثة  تسِمُ اليوم جزءً ظاهراً للعيان من الثقافة العراقية: التراجع الشامل وغياب الحماية الروحية والمادية للمثقفين، طغيان الإشاعات الثقافية، التنابذ اللفظيّ والنميمة الأدبية، أحكام مسبقة و"تجييل" عشوائي يرفع راياتٍ مثل رايات القبائل، وتكتلات تقوم على أساس مناطقيّ وطائفيّ وسياسيّ، ثم تقديم الذات المنتفخة بصفتها المنجَز الأهمّ الذي يتوجّب أخذه وحده بالحسبان.
مَنْ يمكن أن يمارِس ثقافياً سياسة العصا والجزرة على المثقفين العراقيين وغيرهم؟ إنها المنابر العربية الأدبية المشهورة، والمحررين الثقافيين المعروفين والصحافة المكتوبة والمرئية التي تدفع العملة الصعبة خارج البلاد وما يماثل ذلك. كلها تمارس، بدهاء وهدوء، منذ بعض الوقت سياسة العصا والجزرة الثقافية على البلد الهش، وتفسّر لنا لماذا تقع كتابة النقود المتواصلة عن محررين معروفين بعينهم وتجاهل كتاب بعينهم، خاصةً من طرف بعض مثقفي ونقاد البلدان المضطربة مثل عراقنا، أو من طرف مثقفين جدد يعتقدون أن بلدانهم مهمَّشة ثقافياً مثل المغرب. وهي تفسر كذلك لماذا تقع الكتابة عمّا تريد هذه المنابر والأسماء والفضائيات فحسب، ولماذا تحْجَب المقالات التي لا تعجبها، ولماذا يغيب بشكل متواصل وليس على الإطلاق، كبار المثقفين العراقيين ولا يجري حتى الإعلان عن نتاجاتهم الأدبية، ولماذا بالمقابل تحضر أسماء الشعراء والكتاب العراقيين، بالجملة، وسط الاستفتاءات العابرة والملفات الأدبية العريضة، وليس بتكريس مواد مخصوصة بهم ولا دعوتهم لكتابة أعمدة ثابتة بينما يُستدعى لذلك مَنْ لعله أقل شأناً إبداعياً منهم.
سياسة العصا والجزرة تقوم على أساس الحضور الثقافي المشروط (الجزرة) أو الغياب الكامل (العصا). الجميع، من يُمارِس اللعبة ومن تُمارَس عليه، فهمها بدقة. إن تحليل ذلك، لو كان صحيحاً، يعيدنا إلى فكرة مديح القويّ المسيطر الضاربة في التاريخ العربي الإسلامي.... المهينة.
بالطبع نحن نعرف أن هناك أسماءً عراقية جليلة لا يمكن التغاضي عنها وتتجاوز سياسة العصا والجزرة، وهي إما ممن تكرّس عربياً في وقت سابق ولا يمكن تجاهلها اليوم، أو هي ممن كوّن وأفاد من علاقاته الأدبية في الوسط الثقافيّ العربيّ في زمن النظام السابق عبر مبادلات معقدة تشابه من جهتها "العصا والجزرة" لصالحها يومذاك، لكن أيضاً عبر جهد شخصيّ إبداعيّ أحياناً والحق يُقال، أو هي أخيراً ممن يتطابق مع الأيديولوجيات القومانية لبعض المنابر العربية، كما هو حال شعراء البعث المعروفين في الوسط الثقافي الأردنيّ.
استثناءات لا تنفي المحور الأساسيّ لفكرتنا: إن التعاطي العربيّ الحالي مع الثقافة العراقية المكتوبة يستند إلى ملامح هذه السياسة. ثقافة العراق الحالية لا تعِدُ أحداً في العالم العربي بشيءٍ، لا بمنفعة مادية ولا بطباعة كتاب، ولا بحضور مهرجان ثقافي قيّم. وهو أمر دفع بعض المثقفين العراقيين، القدامى والجدد، إلى القبول بالعصا والجزرة إلى درجة الانحناء لمنطق هذه المنابر، أو الاستسلام لأوهامه الجنسية وتوقعاته عندما يعالج كاتبة نسوية عربية مفرطاً في مديحها. لن نتطرّق إلى طبيعة دعوات المهرجانات الشعرية الفرنسية أو أسباب الترجمة إلى اللغات الأجنبية لأنها من الوضوح والخزي بمكان.
سنرى فيما إذا سيختلف الموقف بعد أن تتبين في شجرة الثقافة العراقية ثمار الجزر الموعودة؟.
سنتذكر ذلك عندما تحيّن الفرصة، لأننا لا نؤمن البتة بلمعان العصا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram