عام 2000 تعرفت على طبيب جلدية في أبوظبي. اسمه محمود وهو الإبن الأصغر للرئيس العراقي الأسبق عبد السلام عارف. وقد سرني وأفادني. كان مبعث السرور أدب الرجل وأريحيته ثم خصوصا غياب أي أثر من آثار العز الآثم الذي عرفت به عوائل الرؤساء والمسؤولين بعد سبعينيات القرن العشرين .
كان كغيره من الكفاءات العربية العاملة في الامارات، لا يختلف عنهم في امتياز. وكان كغيره من العراقيين المقيدين بجواز سفر ممنوع من الصرف في أي بلد من بلدان العالم عدا سورية، بفارق وحيد في القاهرة التي ظلت تستقبله متى شاء، تقديرا لعلاقة والده الطيبة بعبد الناصر. كان شخصه الكريم ووضعه الاعتيادي يذكِّران بزمن تقلصت فيه ظاهرة "استغلال النفوذ" بين الحكام الى درجة الصفر.
إن منظور الأبيض والأسود لا يساعد على الاقتراب من حقائق الأمور. وكان عصر الثورات الذي فتح علينا أبواب جهنم قد سوّد صفحة الجمهوريات وبيَّض صفحة الملكيات. والحقيقة ليست كذلك. من المؤكد، بنظري، ان استمرار الملكية العراقية كان أفضل لاستقرار البلد وتطوره التدريجي، ولتجنب الوفرة الصاخبة من المآسي المستعصية. ولكن هذا لا ينفي ان العراق في العهد الملكي كان دولة فاسدة. وهي شيء يفرق عن منعطف "فوضى الفساد" الذي انتهت اليه الحال. ذلك ان "الدولة"، فاسدة أو نزيهة، نظام يختلف كليا عن "الفوضى".
وكانت "ثورات" أو انقلابات" الخمسينيات في أحد وجوهها احتجاجا على الفساد. وقد تمثل أحد أشكال جدية ذلك الاحتجاج وصدقيته في نزاهة رجال تلك الثورات، بدءا من عبد الناصر، وابراهيم عبود في السودان، وبن بله في الجزائر، وصولا الى عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وخليفته عبد الرحمن عارف. هؤلاء جميعا حكموا ومضوا دون محسوبية ولا نهب. ومن هذا المظهر الذي تبدى لي شاخصا من خلال الدكتور محمود عبد السلام عارف استوحيت فكرة برنامج وثائقي بعنوان "بين زمنين"، يتابع سير ملوك ورؤساء عرب، هم وعوائلهم، قبل وخلال وبعد ولايتهم.
مع نهاية ذلك الجيل بدأت سيرة "استغلال النفوذ"، أو المحسوبية واللصوصية، الى ان بلغنا الذروة مع "الجمهوريات الوراثية". وهي ذروة جاوزت حدود الفساد ووصلت الى درجة من الاستهتار تفوق الخيال. ومن رحم هذا الاستهتار الشنيع ولد بشار الأسد، الذي اصبح اليوم آخر نجوم عصر "الجمهويات الوراثية". وهو عصر من المفترض أن يكون "الربيع العربي" قد قضى عليه. فهذا "الربيع" هو في المقام الأول ثورة على المحسوبية. تماما مثلما كانت محسوبية الخليفة الثالث، رضي الله عنه، أكبر أسباب الثورة التي تحولت الى "الفتنة الكبرى".
وفي المناسبتين التاريخيتين كانت النزاهة قد تراجعت لتخلي مكانها للمحسوبية. ولكن بدل الواحد في الأولى أصبح لدينا ستة رؤساء عرب "جفتة" واحدة في الثانية: صدام، الأسد، القذافي، بن علي، مبارك، علي صالح. جميع هؤلاء الرؤساء لم يأخذوا عبرة من أهم وقائع تاريخ الاسلام. كأن العالم يضيق لدى هذا النوع من الحكام الى حدود السلطة فلا يجاوزها. ويتحول قصر النظر عندهم الى نمط من الحياة في وهم لا يتبدد حتى اذا اندلعت عليه ثورة عارمة. لعله عمى السلطة. ولعل سببه، كما قالت الخاتون غرترود بِل، هو أن "العربي عبر القرون كلها لم يشتر حكمة من التجربة". واذا صح هذا السبب فليس هناك في تفشي المحسوبية بين العرب أي عجب.
المحسوبية
[post-views]
نشر في: 14 أكتوبر, 2012: 08:41 م