TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > تزييف الوعي .. سلاح السلطة

تزييف الوعي .. سلاح السلطة

نشر في: 21 أكتوبر, 2012: 04:57 م

بقدر ما يشكل الوعي الناضج أو حتى الجزئي، منعطفاً تأريخياً في حياة أي مجتمع يقوده إلى مساحة العقل والذات ، يشكل في ذات الوقت هاجساً يؤرق ويخيف السلطة باختلاف نوعها سواء أكانت سلطة دينية أو سياسية أو اجتماعية ( عشائرية) ،فهي تقف بالضد من اتساع رقعة المعارف وظواهر التجديد والانبعاث ، فتلك قيمة متأصلة تدفع المجتمع إلى المواجهة والتغير ورفض الخضوع والابتزاز ، وطبيعي هذا الحراك يتنافى ويتقاطع مع السلطة السياسية  في العراق التي تحرص على إيجاد مساحة مفتوحة خارج دائرة المراقبة المجتمعية ، كأحد أوجه السيطرة، وضبط حركة المجتمع ، ومحاصرة ديناميكية العقل الناقد ، حتى توفر قوة إضافية ليس بالمعنى العسكري ،فهذا لا يأتي ضمن فكرة سطورنا ، إنما القوة المعنية هنا هي تلك الموجه نحو الوعي بوصفه ثيمة تتحكم بمدارك العقل والتفكير والاتجاه ، وتعمل على رفع قيود القولبة والانسداد الجمعي لموارد الارتقاء .
ودون عناء هذه القيم تثير الطبقة الماسكة بالقرار، وتدفعها لاستبدال الأنساق المعرفية بنوع من الوعي الزائف أو السطحي الذي يمثل عقيدة الحكومة. وبالتأكيد فان هذا الوعي ينطلي على طبقات مختلفة وكبيرة من المجتمع أو يستقبل بحفاوة على اعتبار انه صدر من الحكومة أو الأحزاب الكبرى أو الجهات سالفة الذكر ،  التي تحتفظ بقدسية ورمزية ، لدى شرائح  هامشية وقطاعات غير واعية تلعب دوراً سلبياً في المستقبل وتبقى تروج وتبث المفاهيم المستعارة خدمة للسلطة وبدون أي تخطيط ، ومن اجل أن تبلغ الرسالة غايتها القصوى ينفذ مشروع تزييف الوعي ثلة تتولى المسؤولية بإتقان وحرفية على طريقة استراتيجيه (الخداع واستلاب الذات)، وتنميط الحياة وضخ أفكار تسلب الجماعات قدرة الصمود والاحتفاظ بوعيها القائم على سلسلة التراكم الثقافي النابع من تراثها الخالي من المغالطات والشوائب ، وحتى تتخلص السلطة من الخوف والتحرك تسحب  الجماعات إلى زاوية السيطرة ونزع لبوسات النقد والاعتراض والمقاومة ، وتغليفها بالوعي الزائف المؤقت ، وبذلك تصبح تمثل بشكل كامل قناعات القائمين على المشروع ،  أي حمل وعي السلطة وتكريسه والانطلاق منه والدفاع عنه ، كما يلاحظ حاليا لدى أغلب الفئات التي نزعت وعيها وارتدت وعي السلطة المدجن ، وهذا يخلق عقلاً عاطلاً وعاجزاً عن التجديد وصولا إلى ما نصطلح عليه التفكير (بالاستعاضة ) ،أي أن هذه الجماعات تفقد باطنها ثم تنحدر إلى مرحلة الاستجابة السلبية، ويصبح ما تفكر به السلطة هو فكرها وذاتها ،  وإن خالف ونسف كل مقوماتها الوجودية فذلك لا يعني لها شيئاً مقابل إرضاء السلطة ، وبذلك لا يختلف تزييف الوعي من حيث الإطار العام عما يتضمنه علم النفس من مفاهيم الانفصام والتقليد والخضوع . وبمرور الوقت وكنتيجة طبيعية لذلك ، تظهر عوارض اجتماعية تساعد على تأجيج النزاعات والاحتراب وصعود الهويات الفرعية وابتلاع الأقليات ورفض الآخر وتمزيق المجتمع .  وقد نجحت السلطة في دورها المركب في هذا المضمار حين نزلت وغاصت في تركيبة المجتمع وعمقت الانشقاقات والخلافات، وباتت كل شريحة لا تفكر بالمشتركات مع الآخر والجوامع والهوية والاعتبار ، بل صارت تنجر وتنقاد خلف الخطاب الموجه ، الرامي إلى شل حراك المجتمع وفاعليته بصورة عامة.
نعم قد تشعر السلطة بأنها وصلت إلى حالة الأمان من الارتعاشات بعد مرحلية الدور الذي جسدته في صهر الوعي ،  لكنها لا يمكن إن تبقى بمنأى عن الاحتكاك الذي سيولده التاريخ وتعاقب الأجيال والانفتاح على العالم وتراكم الإفرازات الناقمة على إدارة الحكم، فمهما طال أمد التنويم وتغير الوعي فهو معرض للانقشاع والإزالة بفعل الزمن فضلا عن هواجس فردية تعبر حالة الإخماد التي مارستها السلطة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. حيدر سعد

    تحيه طيبه... ان هذه الالتفاته لهذا الموضوع المهم جدا و من قبل صحفي عراقي تشعرني بالارتياح لضمان وجود من يبحث عن مسببات تراجع الوعي في بعض الاوقات ابتداءا من القرن المنصرم وليومنا هذا ولعل السبب الاول في هذا التراجع هو ما ذكرت ولكن اعتقد ان الانفتاح الكبير

  2. العسلاوي

    تحية طيبة الى الاخ الجميل حيدر سعد .... حقا ان الوعي في العراق مر بمراحل نكوص وانتعاش وفق التصنيفات المعتمدة للمشتغلين بالحقل الثقافي والاجتماعي ، وتعتبر فترة السبعينيات من المراحل التي ازدهر بها الوعي وبدا ياخذ طريقة نحو التصلب والثبات ، لكن هذه المرحلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram