و المقصود هنا بـ ـ( يصرف ) ، أن يعطي الشعب للحكومة مصروفاً . . بعد أن شاعت في الأوساط الشعبية جملة تساؤل " شايفين شعب يصرف على الحكومة ؟ ". و قد يبدو السؤال لأول وهلة ساذجاً
لأنه من الطبيعي أن يصرف الشعب على الحكومة و إلاّ من أين للحكومة أموال ؟! لتدافع بها عن البلاد و عن أمن و سلامة المواطن و خدمته، و لتصرف رواتب ملايين الموظفين
و المستخدمين و العمال مدنيين و عسكريين، و عشرات آلاف لا يمكن تصنيفهم . . و مصروفات كثيرة غيرها !
و من ذلك لابد من التذكير بأن الحكومة و منذ نشوء الدول، و بعيداً عن تفاصيل كيف وصلت إلى دست الحكم، و خاصة تلك التي جاءت عن طريق انتخابات عامة . . هي مؤسسة تعود للدولة وتقوم بإدارة شؤونها لمدة يحددها دستور البلاد، واجبها حماية سلامة الدولة و حقوق مواطنيها نساءً ورجالاً، و تسهر على خدمتهم و رعايتهم و على صحتهم و أمانهم و غيرها من الخدمات الواجب عليها القيام بها . . و تستمد نفقاتها لذلك من موارد البلاد الطبيعية التي هي ملك الشعب، و من أنواع الضرائب المفروضة على كل المواطنين . . سواء على أملاكهم و أعمالهم و معاملاتهم و على رواتبهم الحكومية، أو مدخولات أعمالهم، و على السلع الغذائية و الاستهلاكية . . الخ
و في دول تأسست منذ عقود طويلة، يفترض أن تكون حكوماتها قد استقرت على آليات صارت شبه ثابتة على صعيد مواردها المالية و كيفية التصرّف المسؤول عنها ـ أو كيفية إصلاح النواقص والتعثّر و المعوقات في ذلك ـ و كيفية دواوينيته و أسلوبه الإداري على الأقل، كما في بلادنا العراق . . حيث يتساءل الكثيرون عما يُفعل بما يدفعونه شهرياً للحكومة، و ماهو مصير ما يدفعونه من ضرائب شهرية ، خاصة أن ما تدفعه الفئات الواسعة من الموظفين و المستخدمين و العمال و غيرهم من ذوي الدخل المحدود، يشكّل مورداً كبيراً للحكومة ؟
و يتحدث الكثيرون بألم بسبب العَوز . . عن أسبابه، و عن أن ما يدفعونه شهرياً للحكومة صار يستنفد دخولهم . . فإضافة إلى الضرائب المستقطعة من قبل الحكومة من مرتباتهم الشهرية، فهم يدفعون نقداً لمن يقومون بحراسة البيوت من الحرامية و اللصوص، و نقداً لمن يقومون بأعمال النظافة الأساسية و رفع الأزبال اليومية، في ظروف ازدادت فيها الأنقاض المتروكة و الجديدة، وازدادت فيها عواصف الغبار حتى تسيّد الغبار فيها على الجو في غالبية أيام السنة، و صارت طبقات الأتربة تغطيّ ما يتراكم من النفايات . .
و إضافة إلى التكاليف العالية و المعاناة الحقيقية للحصول على فرص التطبيب الناجح و العلاج المناسب، بعد هروب النسبة الأكبر من الأطباء و الأخصائيين بسبب أعمال الاغتيالات و الإتاوات والفصل العشائري في حالة نقص العلاج . . التي طالت الكثير منهم، و امتلاء السوق بالأدوية المغشوشة رغم الإجراءات الحكومية لملاحقة ذلك . .
تعاني أوسع الأوساط مشاكل الكهرباء و تقطّع تياراته و ضرورات التحويل بين التيارات الكهربائية . . بين كهرباء المؤسسة " الوطنية " الحكومية، و كهرباء المحلّة و متعهديه الأهليين المدفوعي الثمن من أهالي المحلّة، إلى ماطورات توليد الكهرباء المنزلية التي تصمّ الآذان بضجيجها العالي، و ماسبب و يسبب حالات وفيات بسبب التيار الكهربائي لقلة و عدم معرفة كثيرين بشؤون التعامل مع الكهرباء، في ظروف تستوجب القيام بذلك و خاصة عند وجود أطفال أو كبار سن أو مرضى و مرضى راقدين، في صيف لاهب . . . إن مأساة غياب الكهرباء أدت إلى تحوّل مفردات الكهرباء من " الأمبير" إلى " المحوّل" و "العاكس" إلى مفردات يتعامل بها الأميون، و يرددها حتى الأطفال في نقاشاتهم الطفولية البريئة و العقيمة التي لاتقدّم و لاتؤخر، و لكنها تهدد بأخطار قد تتسبب بكوارث للعوائل و خاصة الفقيرة الواسعة منها .
و بسبب حالات الكهرباء تلك يزداد تلف الأجهزة الكهربائية المنزلية المتنوعة، بسبب التتابع غير المتوازن للتيار الكهربائي المار بها للأسباب المذكورة، و يسبب تلف أجهزة أخرى بسبب تقطّع التيارات و مايستنزف ذلك من دخل المواطن، الدخل الذي مهما ازداد بسبب الإجراءات الحكومية الساعية لحل المشكلات بزيادة الدخل، فانه يواجه تزايد تكاليف توفير الكهرباء و الزيادة غير المقيّدة للقائمين على توفير كهرباء المحلات و على بيع أجهزة توليد و توفير الكهرباء . . في ظروف تزداد فيها حالات الوفيات المبكرة بسبب حرّ الصيف اللاهب و عواصفه الترابية المتزايدة بلا انقطاع . .
من جانب آخر تستنزف أعمال إصلاح الأبنية، و الممتلكات التالفة من قطع الأثاث الأساسية التي تتدمّر بسبب أعمال الإرهاب التي أخذت تتصاعد مؤخراً، لأسباب لايعرفها إلا متنفذو الكتل الحاكمة كما يتداول الناس . . تستنزف بشدة دخول المواطنين، رغم الإعلان عن دفع الحكومة تعويضات لهم، ولكنهم لم و لا يقبضون منها شيئاً، رغم دفع عمولات و وساطات و غيرها من اجل ذلك، و لايعرف أين تحلّ تلك التعويضات و في جيب منْ، إن صُرفت فعلاً . .
و من الطامات الكبرى لتزايد صرف قطاعات الشعب على المشاريع الحكومية الأصولية منذ تشكيل الدولة العراقية . . هو الصرف على المدارس و خاصة الابتدائية التي يفترض أن تهيئ الطفل ليقرأ و يكتب و يكتسب المعارف الأساسية التي تمكنه من التعامل مع العائلة و المجتمع، في أحسن التقديرات . . فبعد سنوات طويلة انهارت أبنية مدارس ابتدائية كثيرة جزئياً أو كلياً بسبب الحروب المجنونة و الحصار و الإرهاب إضافة إلى تقادم الأبنية تلك التي بقيت دون أعمال صيانة و التي ازداد استهلاك أبنيتها و مرافقها بدرجة اشدّ من الماضي بسبب زحام الصفوف الدراسية و دوام وجبات متعددة فيها في اليوم الواحد . . حتى صارت مهددة بالانهيار من جهة، و لقلة و انعدام الكادر التعليمي فيها للأسباب المذكورة و لأسباب أخرى يضيق بها المقال . . كما تتناقل الصحف العراقية و وسائل الإعلام الحكومية ذاتها.
فيتحدث أهالي مدينة الصدر ـ الثورة سابقاً ـ مثلاً، بألم عن إرهاق عوائلهم الساكنة فيها بسبب تكاليف المدارس الابتدائية الأهلية، التي صار متعهدون جاهليون ينشئونها . . بعد أن صارت الدراسة الابتدائية في مدينة الصدر التي تضم أكثر من ثلث نفوس مدينة بغداد العاصمة . . صارت دراسة مدفوعة الأجر من الأهالي، و ألاّ يُترك الأطفال في الشوارع فريسة سهلة لأنواع الحيتان الخطيرة ، من حيتان الجريمة المنظمة و السرقات، حيتان المخدرات . . إلى حيتان بيع الأعضاء البشرية و تجارة البشر . .
كل ذلك يجري . . في زمان يكشف فيه يومياً عن سرقات و نهب و رشاوى و فساد إداري واختلاسات بعشرات المليارات من الدولارات، و تحوم فيها الدلائل التي تتوفر و القرائن و الشكوك . . عن ضلوع موظفين حكوميين كبار فيها، و نفاذهم من التحقيق و من الإجراءات القانونية الطبيعية التي قد يعلن عنها . . و في وقت تنشغل فيه الكتل البرلمانية و الحكومية الكبيرة بنزاعاتها على الهيمنة وعلى كرسي الحكم الأوحد، و لو ديس على الدستور الذي أقرّته هي . . لأنه صار قديماً !
عندما يصرف الشعب على الحكومة !
[post-views]
نشر في: 31 أكتوبر, 2012: 11:00 م