أي علاقة معقدة تربط الإنسان الأول بالإنسان الأخير؟ ان عنوان المقال تهمة او وصف سمعته طوال حياتي. شيخ دين ذكي هو الان ضمن السلطة قالها لي يوم كنت في العشرين. الكثير من اصدقائي كارهي الغرب يقولونها لي. بعض القراء قاموا بتذكيري بهذه التهمة قبل ايام حين حاولت وصف فدرالية امريكا واحترامها لجميع المكونات ومنحها اهالي الولايات والاقضية والنواحي حق تقرير مصير الميزانية المالية ووجوه انفاقها.
انني منبهر بالغرب حقا، لكنني منبهر بالشرق ايضا على خرابه. الامريكان الذين شاهدتهم خلال سفري هذا يحبون الف ليلة وليلة وسندباد ويسألونني عن الكباب والخمر الشرقي واشعار الايراني حافظ الشيرازي حيث قرأت لهم منها قصيدة الساقي التي يتشارك مطلعها الساحر مع خليفة اموي مثير للجدل.
انني منبهر بالشرق ومحب له الى درجة عجزي عن تركه وهجره، وكلما مررت بشارع جميل رددت مع نفسي مثل كل عربي اخر: لماذا لم يصنعوا هذا في مدينتي، وما بالهم لم يطوروا ذاك في منطقتي. لكنني منبهر بالغرب ولا اخجل من هذه التهمة لان جميع الشرقيين يعانون هذا الانبهار حتى لو كتموه.
بضعة امريكان شاركونا السهرة امس كانوا يسألون عن علاقتنا المعقدة معهم، فرحت ادوخ رؤوسهم بحكاية ابينا آدم الانسان الاول الذي هبط بين البصرة والاهوار عند ملتقى النهرين. نحن اولاده بقينا سعداء بلقب الانسان الاول حيث يقال اننا اخترعنا العجلة واوقدنا النار وشيدنا الزقورة ثم شعرنا بأن مهمتنا انتهت كأي مخترع اول. ثم توقف كل شيء تقريبا حتى جاء الانسان الاخير "الاوربي والامريكي لاحقا" فاستأنف المخترعات. لقب الانسان الاول وصف اطلقته علينا الميثولوجيا وقصص الاولين ونابشي بيوت بابل. اما لقب الانسان الاخير فقد استخدمه الياباني الامريكي فرانسيس فوكوياما لوصف الليبرالية الامريكية في كتابه الصادر نهاية القرن "نهاية التاريخ والانسان الاخير" حيث يقول ان صيغة الحداثة كما هي في امريكا هي اخر نموذج ستعرفه البشرية لانه حرية شبه مطلقة ستستوعب كل الصيغ المقبلة. ورغم انني اخشى التعميم ككل دارسي المنطق فإن الرجل على حق. لكن المهم ان الانسان الاول شعر انه اتم سعيه وأنهى مهمته ولم يعد احد يطالبه بشيء كأي وزير عراقي، بينما تصحو شعوب الغرب كل يوم لتكتشف لنا جديدا في الارض او السماء.
ولست منبهرا بالغرب لهذا السبب وحسب،بل لقدرته على انتقاد نفسه. الغرب كيان تاريخي لا يخجل من مشاكله ويناقشها بصراحة، ويمتلك لغة اعتراف ولا يقنع بالقليل. منذ قرنين كان نيتشة احد واضعي اسس الحداثة، ينتقد الغرب، بعده حظيت هذه الحضارة بأقسى نقد على يد كبار مثل شوبنهاور الذي حذر من سقوط مهول، ثم جاء راسل وبوبر هابرماس وفوكو وتشومسكي وسواهم لينتقدوا نظامهم بأقسى نحو واعمقه. انها حضارة تعرف طريق الاعتراف. الخبراء يشرحون لنا بإسهاب هذه الايام كيف ان نظام الانتخابات في امريكا تعرض الى نقد مستمر بلا توقف وهو يتطور بين كل انتخابات واخرى. الانسان الاخير ينتقد نفسه كل يوم بينما الانسان الاول يزهو برائحته العتيقة ويفخر بجلباب ابيه والليالي الخوالي.
الامريكان يحبون ان يسخروا من انفسهم امام الغرباء وهذه لعبتهم المفضلة. يقول لك مسؤول في مفوضية انتخاباتهم: الحزبان بفضل تبرعات داعميهم و جمهورهم، ينفقان ٥ مليارات دولار على الانتخابات، لكنه رقم عادي فهناك ٣٦٠ مليون امريكي ينفقون ١٣ مليار دولار على الايس كريم سنويا، بل انهم ينفقون ٨ مليارات دولار على عيد الهالاوين الذي يستغرق اسبوعا واحدا ويبلغ ذروته الاربعاء.
ان شوارع واشنطن وريتشموند هي الاكثر كمالا بين المدن التي رأيت، لكن الامريكان ينهمكون ليل نهار في صيانتها واصلاحها، بينما شوارعنا الناقصة لا تجد من يمد يدا مناسبة اليها. شوارع مدنهم تتعرض الى اصلاح متواصل اعترافا بالنقص، مثل عقل الحضارة الغربية الذي يتعرض الى نقد واصلاح متواصلين بينما نعجز نحن عن انتقاد شيخ قبيلة صغيرة او تفصيل ثانوي ورد في كتب التاريخ الديني. وهذه نقطة الفصل بيننا نحن "الانسان الاول" الذي لا يمتلك سوى ماضيه فإذا انتقده لم يعد يملك شيئا. والانسان الاخير الذي ليس له ماض مهم احيانا لكنه لا يقنع الا بالسباق مع المستقبل وتحسينه وتطويره، بروح مغامرة وتحرر فريد.
انني منبهر بالشرق عاجز عن مغادرته وهجره، لكنني مثل كل الشرقيين مسحور بجرأة الانسان الاخير هذا وقدرته على الاتقان وتصحيح الاخطاء، والاعتراف بالخطأ. لنردد مع حافظ مقتبسه عن الشاعر الاموي: انا المسموم ما عندي ترياق ولا راقي. وعليكم تكملة الباقي من العم غوغل، هدية الانسان الاخير الى كل انسان اول كسول مثلي.