علوم الطبيعة والتكنولوجيا،على النحو الذي صارت عليه في العصر الحديث، ظاهرة جديدة. وهي، وإن تركت تأثيرها في كل مكان، لكن تأثيراتها العميقة والهائلة وقعت في المجتمعات المنتجة لا المستهلكة لها.
ولكثرة أنواع هذه العلوم، وتخصصاتها الدقيقة التي بلغت الآلاف، فقد اصبح العلماء يمثلون شريحة تعد بعشرات الآلاف في كل مجتمع من المجتمعات المتقدمة. وهؤلاء لا يمثلون انتاجاتهم العلمية والصناعية فقط، وانما صاروا تجسيدا لأرفع القيم الانسانية، لحب المعرفة والتعلق بالحقيقة.
كان افلاطون قد قسم البشر الى محبي المال ومحبي الشهرة ومحبي المعرفة. المال مهوى التجار والصناع، والشهرة قبلة الأمراء والحكام والقادة العسكريين، والمعرفة كعبة الفلاسفة. وفي عصر افلاطون كان العلم جزءا من الفلسفة، وبالتالي لم يكن علما بمفهوم العصر الحديث. وقد احتل العلماء اليوم المكانة التي كانت للفلاسفة في اليونان القديمة. واذا اعتمدنا تقسيم افلاطون فسيصبح العالِم اليوم هو الرمز الأول لقيمة المعرفة.
والمعارف العلمية تختلف عن المعارف الانسانية من حيث "الموضوعية". فالذاتية تخالط الأخيرة حكما، لأن موضوعها هو الانسان نفسه، لكنها بعيدة عن المعارف العلمية لأن موضوعها هو الطبيعة. وهذه تستطيع التعامل معها بـ "موضوعية"، لأن أمورا مثل الكتلة والطاقة والضوء والصوت والذرة والأذن والنبتة والمجرات والأعصاب، لا تثير العواطف ولا تولد الانفعالات، شأن القيم والعادات والجمال والبشاعة والصراعات والأديان والاختلافات البشرية.
و"الموضوعية"، التي تمثل حلم المعارف الانسانية، هي القيمة الأخلاقية العليا الحاكمة في المعارف العلمية. "الموضوعية" قصة طويلة عريضة. ولكنها عموما ترتكز على ثلاثة أعمدة هي الروح النقدية والنزاهة والحياد. وكل واحد من هذه الأعمدة هو الآخر قصة وحكاية. وهي أعمدة لا يوجد "عقل يقظ " أو "مؤسسة صاحية" في عالم اليوم من دون الأخذ بهذا المقدار أو ذاك منها.
وبسبب من هذه الأعمدة، أو القيم، التي يرتكز عليها العلم، أصبح "العلم" بيئة نزيهة في المجتمع. وصار العالَم بهم أقل فسادا. فهؤلاء "قومية" مأخوذة بأهداف لا تمت بصلة الى المال والشهرة، آفتي الفساد اللتين اتعبتا الأنبياء والمصلحين، وشقيت بهما البشرية. جاء في الحديث الشريف ان"حب المال والشرف أذهبُ لدِين أحدكم من ذئبين ضاريين باتا في زريبة غنم الى الصباح، فماذا يبقيان فيها؟". هذا الفزع من الفساد أشقى التاريخ كله، ومن أمثاله الخليفة النبيل عمر بن عبد العزيز الذي سأل يوما احد الحكماء:"دلني على قوم من القراء أولِّهم. فقال له:القراء ضربان أحدهما يعمل للآخرة ولا يعمل لك، وآخر يعمل للدنيا فما ظنك به اذا مكنته منها؟".
وحده المجتمع الصناعي الحديث وجد حلولا للحد من الفساد، على رأسها حكم القانون، ومن ضمنها سعة وغنى مجالات العلم والتكنولوجيا التي أصبحت تيارا ومثلا أعلى. والقانون صورة من دون مضمون في المجتمعات المتخلفة، التي تفتقد أيضا "قومية" العلماء. والقانون والعلم هما الجناحان اللذان طار بهما المجتمع الصناعي الحديث الى القمر. وبغيابهما تظل البلدان فرائس ذئاب المال والشهرة، وضحايا "قراء" الجوع العتيق الى الدنيا. وتحت هذين الغيابين ترقد أغلبية البشرية التي تعيش عقلا وروحا في القرون الوسطى وتتفرج من خلال التلفزيون على "عصر العلم".
كيف يظهر العالِم، ومتى يحكم القانون؟
عند اليقظة. هناك شعوب كثيرة تملأ الأرض ضجيجا ظنا منها بأنها مستيقظة. لكنها في الحقيقة نائمة. وكيف لا تكون كذلك وليس فيها علم ولا علماء؟
عند اليقظة
[post-views]
نشر في: 2 نوفمبر, 2012: 07:10 م
جميع التعليقات 1
smh
describe the arab very well