يحيى الكبيسي
مرة أخرى نكون أمام قرار "ملتبس" للمحكمة الاتحادية يكرس ما قلناه مرارا عن "إشكاليات" عمل هذه المحكمة، ويجدد مرة أخرى طرح السؤال الجوهري عن طبيعة هذه المحكمة ودورها أو أدوارها في إعادة هيكلة النظام السياسي في انتهاك غير مفهوم لصلاحياتها المقررة دستوريا، ولما استقر عليه فقه الدستور حول وظيفة المحاكم الدستورية.
لقد أصدرت المحكمة الاتحادية قرارها المرقم (67/اتحادية/2012) بتاريخ 22/10/2012 بعدم دستورية الفقرة خامسا من المادة 13 من قانون اﻧﺘﺨﺎب ﻣﺠﺎﻟﺲ اﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺎت والأقضية واﻟﻨﻮاﺣﻲ رقم 36 لسنة 2008 الفقرة التي قررت طريقة توزيع المقاعد الشاغرة بعد توزيع المقاعد على القوائم الانتخابية التي حصلت على القاسم الانتخابي وفق ما قررته الفقرة أولا من المادة 13 نفسها. فقد وجدت المحكمة أن منح المقاعد الشاغرة ﻟﻠﻘﻮاﺋﻢ اﻟﻤﻔﺘﻮﺣﺔ اﻟﻔﺎﺋﺰة اﻟﺘﻲ ﺣﺼﻠﺖ ﻋﻠﻰ أﻋﻠﻰ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻷﺻﻮات ﺑﺤﺴﺐ ﻧﺴﺒﺔ ﻣﺎ ﺣﺼﻠﺖ عليه ﻣﻦ اﻟﻤﻘﺎﻋﺪ ﻻﺳﺘﻜﻤﺎل جميع اﻟﻤﻘﺎﻋﺪ اﻟﻤﺨﺼﺼﺔ ﻟﻠﺪاﺋﺮة اﻻﻧﺘﺨﺎبية يخالف أحكام المواد (2/أولا/ب) و (20) و (38/أ) و(14) من الدستور.وكانت الحيثية الأهم في هذا القرار هي أن "عملية تحويل صوت الناخب من المرشح الذي انتخبه إلى مرشح آخر من قائمة أخرى لم تتجه له إرادته لانتخاب مرشحها تشكل خرقا ومخالفة لأحكام المادة 20 من الدستور".
وقد استندت المحكمة على هذه الحيثية في رد طلب المدعين بطلب توزيع المقاعد الشاغرة على القوائم الانتخابية التي تحقق أعلى عدد من الأصوات ولم تصل إلى القاسم الانتخابي، لأنها عدت أن هذا الأمر يعني أيضا تحويل أصوات المواطنين من دون إرادتهم من المرشح الذي انتخبوه إلى مرشح آخر لم تتجه إرادتهم لانتخابه.
وسبق للمحكمة الاتحادية أن قررت عدم دستورية مثل هذا الإجراء، عندما قضت بعدم دستورية المادة (3/رابعا) في قانون التعديل الأول لقانون انتخاب مجلس النواب رقم 26 لسنة 2009 (القرار رقم 12 / اتحادية/2010 الصادر في 14/6/2010).
لقد قلنا في مقال سابق نشر في صحيفة المدى بتاريخ 28/8/2012 تحت عنوان "معضلة الباقي الأقوى" أن "الجميع: الحكومة من خلال مشروع قانون التعديل، ومجلس النواب من خلال مناقشاته ... والأحزاب والكيانات السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، لم ينتبهوا إلى أن قرار المحكمة الاتحادية يرفض الصيغتين المطروحتين معا في ما يتعلق بالمقاعد الشاغرة، فالمحكمة الاتحادية قررت، بعد استعراض قانون انتخاب مجلس النواب بصيغته الأصلية (المقاعد الشاغرة للباقي الأقوى)، والقانون بعد التعديل (المقاعد الشاغرة للقوائم الفائزة)، أن كلا من التوزيعين 'قبل وبعد' التعديل غير دستوريين، لأن كليهما يرحل صوت الناخب من المرشح الذي انتخبه وخلافا لإرادته إلى مرشح آخر لم ينتخبه أصلا!"، ونبهنا في المقال نفسه إلى أن قرار المحكمة الاتحادية "يضع الجميع أمام معضلة حقيقية في ما يتعلق بآلية إشغال المقاعد الشاغرة. وهو يعيدنا إلى ما قلناه مرارا من أن بعض قرارات المحكمة الاتحادية ارتجالية تفتقر إلى المعرفة (كما بينا في تحليلنا لقرارها المتعلق بالهيئات المستقلة مثلا)، فالمحكمة لم تحاول أن تدرس الأنظمة الانتخابية قبل إصدار قرارها، وبالتالي لم تلتفت إلى طبيعة المعضلات السياسية والإجرائية التي سيثيرها القرار لاحقا".
لن نسأل لماذا لم يلتفت أحد إلى طبيعة المعضلات التي طرحناها في مقالنا المذكور ! ولكننا سنحاول هذه المرة تحليل قرار المحكمة الاتحادية "الأحجية"، وما يترتب عليه عمليا.
أولا: إن قرار المحكمة الاتحادية "البات والملزم للسلطات كافة" دستوريا، يكشف عمليا أن أعضاء المحكمة لم يحاولوا الوقوف على طبيعة الأنظمة الانتخابية المعمول بها في العالم قبل إصدار قراريهما السابقين، وإلا لما تورطوا بالحديث عن إخلال مثل هذا التوزيع للمقاعد الشاغرة "بمبادئ الديمقراطية"! فالعديد من الدول الديمقراطية التي تعتمد نظام التمثيل النسبي Proportional representation، وبضمنها ديمقراطيات عريقة، تعتمد ما يسمى طريقة (الهير كوتا)، أي تقسيم مجموع عدد الأصوات الصحيحة للدائرة الانتخابية على عدد المقاعد المخصصة لتلك الدائرة للوصول إلى القاسم الانتخابي الذي يمثل العتبة الانتخابية التي لا بد منها للحصول على المقاعد الانتخابية. بل إن بعض الدول تعتمد ما يطلق عليه نظام "الكوتا المزدوجة" التي تحدد نسبة معينة من الأصوات لا بد من الحصول عليها للحصول على المقاعد الانتخابية، فتركيا مثلا تحدد نسبة 10% لا بد من الحصول عليها للوصول إلى البرلمان. ثانيا : إن قرار المحكمة الاتحادية يضمن عمليا عدم إمكانية الوصول إلى نتائج نهائية في أي عملية انتخابية في العراق مستقبلا في حال الإبقاء على النظام الانتخابي المعمول به. فالقرار رفض منح المقاعد الشاغرة للقوائم الحاصلة على القاسم الانتخابي، ورفض في الوقت نفسه توزيعها على القوائم التي لم تحصل على القاسم الانتخابي. وهذا يعني بقاء معضلة المقاعد الشاغرة من دون حل سوى اللجوء إلى انتخابات تكميلية، وفي حال بقاء مقاعد شاغرة اللجوء إلى انتخابات تكميلية أخرى وهكذا، مما يعني أننا سنكون بإزاء عملية انتخابات لانهائية للوصول إلى توزيع للأصوات لا يبقي أية مقاعد شاغرة، وهو أمر مستحيل عمليا!
ثالثا : إن قرار المحكمة سيلزم السلطة التشريعية بالبحث عن نظام انتخابي يعتمد آلية لتوزيع المقاعد على القوائم الانتخابية لا تعتمد نظام احتساب الكوتا أو القاسم الانتخابي. وسبق للصديق القاضي قاسم العبودي أن اقترح اعتماد ما يعرف بقاعدة "سانت لاغي" التي يتم بموجبها تقسيم مجموع الأصوات التي تحصل عليها القوائم الانتخابية بطريقة رياضية معينة. وهناك طرق أخرى يمكن اعتمادها (مثل قاعدة دونت، أو قاعدة بيشوف، أو قاعدة بالينسكي يونغ، أو القاعدة الدانماركية) من أجل التخلص من مشكلة القاسم الانتخابي. مع ضرورة الانتباه إلى أن الآليات المعتمدة لتوزيع المقاعد لن تضمن "العدالة المثالية والمطلقة" التي يفترضها قرار المحكمة الاتحادية، لأنها ستشتمل بالتأكيد على السلبيات المتعارف عليها في نظام التمثيل النسبي الذي يعتمد على القوائم الانتخابية، ومن ثم فإن الناخب لا يعطي صوته للمرشح فقط وإنما للقائمة الانتخابية بشكل أساسي في حالة القائمة المغلقة، وللقائمة الانتخابية والمرشح في حالة القائمة المفتوحة. ومن ثم سنكون دائما أمام حالات يحصل فيها مرشحون على آلاف الأصوات من دون الوصول إلى مقعد انتخابي لأن قائمته الانتخابية لم تصل إلى القاسم الانتخابي في مقابل مرشحين يحصلون على عشرات أو مئات الأصوات ويفوزون بمقعد انتخابي لأن قوائمهم حصلت على القاسم الانتخابي. وسنكون دائما أمام "تحويل" للأصوات بطريقة أو بأخرى. والمسألة التي تستدعي الوقوف عندها هنا هي أن المحكمة الاتحادية تجاوزت عمليا حدود صلاحياتها الدستورية في تفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين إلى منازعة مجلس النواب في اختصاصاته التشريعية الحصرية، وهي ليست المرة الأولى على أية حال، وسبق لنا أن كتبنا عن تجاوز المحكمة الاتحادية لصلاحياتها في مقالنا "المحكمة الاتحادية وسلطة التشريع".
اقترحنا في مقال سابق ضرورة أن يتضمن قانون المحكمة الاتحادية مادة تتيح الطعن بقراراتها أمام المحكمة الاتحادية نفسها، فهذه المادة لن تمثل انتهاكا لسلطة المحكمة الاتحادية الدستورية "الباتة والملزمة للكافة" من جهة، وتتيح للمحكمة مراجعة قراراتها أو تسويغها قانونيا، خاصة وأننا أمام قرارت تنتهك الدستور نفسه(القرار المتعلق بالهيئات المستقلة)، وقرارات استندت إلى معطيات غير صحيحة (القرار المتعلق بقانون حماية الصحفيين)، وقرارات تفرغ المواد الدستورية من محتواها (القرار الخاص بشروط الاستجواب في مجلس النواب)، وقرارت لا تأخذ إرادة المشرع بعين الاعتبار (القرارالمتعلق بالكتلة الأكبر) ... الخ
مرة اخرى يدخلنا الافتاء بغير علم ثانية في متاهة دستورية وقانونية، وثانية تتداخل الصلاحيات بطريقة تكشف أزمة مفهوم الدولة في العراق، ومرة أخرى نكتب ولكن يبدو أن لا أحد يقرأ!