أتيح لنا يوم الجمعة ان نزور جامعة برغهام يونغ وفيها مركز دراسات كندي المهتم بشؤون الإسلام والشرق الأوسط، في ولاية يوتاه التي تحاذي أريزونا وكاليفورنيا وتقع على مسافة ١٠٠٠ كم من الساحل الغربي لامريكا، وهي من اغرب مناطق الولايات المتحدة التي رأيت، واكثرها امنا واناقة وثراء.
وحسب وصف الصديق الباحث نبراس الكاظمي فإن يوتاه كانت قبل ١٥٠ عاما مجرد مخيم لاجئين كبير قطنه اتباع كنيسة المورمن هربا من الاضطهاد الديني، ولهؤلاء حكاية غريبة سأتناولها في زاوية اخرى، اما اليوم فإن هذه الطائفة نجحت في انشاء واحدة من اهم ولايات البلاد رغم عدد سكانها القليل (بعدد سكان البصرة تقريبا).
مؤسس "مخيم اللاجئين" هذا كان حريصا على العلوم، فأسس جامعة عرفت باسمه "برغهام يونغ" وكان يحب حرف الواي وهو اول حرف في لقبه، فأطلق اسم واي على الجبل الذي بنيت الجامعة عند سفحه واستلهم من الهنود الحمر فكرة ان للجبل روحا، فوصف الجامعة بأنها جزء من روح الجبل، او روح الواي، ونحتوا لشيخ الهنود الحمر في هذه المنطقة تمثالا تذكاريا اعترافا بطيبة السكان الاصليين الذين ساعدوا "المورمن" بوصفهم مضطهدين من قبل المسيحية الرسمية يومذاك.
البروفسور الشاب الذي استقبلنا، لم يتعب نفسه في التعريف بالجامعة اذ عرض لنا فيلما تعريفيا مترجما الى ٢٥ من اللغات الحية، بما فيها العربية، وراحت المعلومات الصادمة تتوالى. فالى هذه الجامعة البعيدة وسط صحراء امريكا يأتي ٣٠ الف طالب سنويا من ١١٥ بلدا للدراسة، رغم ان نظام الحياة هنا مسيحي صارم على طريقة المورمن الموصوفين بالتشدد. الجامعة ترعاها "كنيسة قديسي الأيام الأخيرة" وياله من اسم شاعري لمعبد متشدد!
والحقيقة ان المتشددين هؤلاء هم اطيب من رأينا هنا، وقد سمحوا لنا "كضيوف مهمين" ان ندخن في الحدائق الغنّاء حيث بدا منظرنا شاذا للغاية، اذ انهم يمنعون طلابهم من شرب الكحول والشاي والقهوة والتدخين. وبموازاة كل هذا التحريم وفروا لهؤلاء الطلبة واحدة من اهم فرص التعلم. هنا يعرضون سيارة سباق طورها الطلاب انفسهم في الاقسام الهندسية، وهناك مكتبتهم بثمانية ملايين كتاب بمختلف اللغات، ولديهم ملعب يتسع لسبعين الف متفرج! وبين برامجهم ان يجري ارسال الطالب في بعثة لستة شهور كي يطلع على احدى الحضارات الاسيوية.
ان لديهم نحو ١٥٠ طالبا متخصصا في دراسات الشرق الاوسط. وسرعان ما جمعونا ببروفسور متخصص في التراث الاسلامي ووضع بين ايدينا طبعات انيقة لكتب لابن ميمون وابن رشد وابن سينا، تضمنت بين دفتيها النص الاصلي المحقق بالعربية وامام كل صفحة ترجمتها وشروحها بالانجليزية. وللحظة كنا امام جهد استشراقي هائل، والغربيون الذين اعادوا الاعتبار لابن خلدون وغيره من عمالقة تراثنا، بعد ان نسيناهم قرونا في عصر الانحطاط، لا زالوا يحاولون فهم العقل الاسلامي هذا ويترجمونه ويشرحونه حتى اثناء انشغالهم بتطوير سيارات سباق صديقة للبيئة تعمل بالكهرباء.
وقد وضعوا هيئة استشارية تطور خطط معرفة العالم الاسلامي وفي الهيئة اتراك وعرب وهنود على رأسهم الكاتب الايراني المرموق سيد حسين نصر. يقول البروفسور المشرف على ترجمة التراث العربي ان الهدف هو وضع تاريخ للمعرفة البشرية، وفي هذا الاطار لا يمكن تجاهل الاسلام، محاولا ان ينفي ان الاهتمام تركز علينا بسبب هجمات القاعدة على نيويورك عام ٢٠٠١. لكن فهم واقع المسلمين اليوم لن يتحقق بترجمة الكتب الجريئة لابن رشد والتي تركت اثرها على الكنيسة الاوربية قبل ٨ قرون. قلت للبروفسور ان عليه ليفهم مسلمي هذا الزمان، ان يرصد العالم الاسلامي وما يشهده من سجال رهيب بين مفاهيم متشددي القاعدة وامثالهم، ودعاة الاستنارة والتجديد النقدي كما بدا في اعمال نصر ابي زيد وعابد الجابري وعبد الكريم سروش وسواهم من مفكرينا. وحدثته قليلا عن شباب في جامعات العراق يحلمون بصناعة فولتير عربي يفضح مفاهيم التشدد والتكفير ويفتح بابا على عصر انوار للشرق الاوسط تأخر اكثر من الف عام. وعن احزاب دينية تائهة في القرن الحادي والعشرين، لا تدري هل عليها منع القهوة والشاي كما صنع المورمن في جامعتهم هذه، ام دخول عالم البزنس وتخفيف التشدد والبحث عن موقع في شبكة المصالح الدولية لإنعاش شعوب جائعة يقتلها التخلف. انها حيرة بين متطلبات الايمان التاريخي وما يحتاجه انسان يعيش على كوكب مزدحم وسط قواعد تنافس قاسية وغير عادلة، جعلت رجال اعمال المورمن يخالفون تعاليم كنيستهم في احيان كثيرة ويدخلون تجارة المشروبات الروحية بحثا عن مصدر دخل اضافي لولايتهم. ان "روح الواي" هنا معقدة والجدل بين الديني والزمني يبدأ من لحظة النبي ابراهيم ولا ينتهي مع مت رومني خصم اوباما، وهو ما سيحتاج وقفة اخرى مع كنيسة "قديسي الايام الاخيرة" في "ايامنا الاخيرة" هذه.
جميع التعليقات 2
علي المحمداوي
رائع بحثك استاذ فما بال نخبتنا السياسيه والمتسلطه على رقابنا ان تمزج بين فقه المحرمات وقوائمه الطويله ومع التطور والعمل على ايجاد هويه واضحه للمجتمع الذي يتخبط بين الحداثه والموروث بعنوان الاصاله شكرا لك
azher
`ذهب ابن الرشد وابن خلدون وجاءنا ابن لادن وحارث الضاري 0 التشدد فايروس يجب اعطاء انتيبايتك للمجتمع حتى يتعافى