الطائرة تحلق فوق الاطلنطي هذه اللحظة وتستعد للهبوط في مطار بوسطن وفي وسعي ملاحظة المرفأ الذي استقبل المهاجرين طيلة قرون، وفجأة اشعر ان الرحلة من غرب امريكا الى شرقها والتي استغرقت خمس ساعات، مرت بلمح البصر لانني كنت مسرورا مثل اي طفل، بخدمة الانترنت السريعة على متن الطائرة والتي اتاحت لي ان اجرب لاول مرة كل انواع التواصل السمعي والبصري مع الاحباب في ٣ قارات اثناء الطيران.
تقرأ وانت محلق تطير فوق تنوع مهول لتضاريس هذه القارة، اخبارا عراقية من قبيل ان الديوانية تحلم بنحو ٣٠٠ مليون دولار لتطوير وضعها البائس، وان اهل البصرة يرون في كوابيسهم عجز المحافظ عن انشاء محطة تحلية مياه متواضعة، بينما يتبرع محبو اوباما ورومني بمئات الملايين من الدولارات لتمكين فريق مرشحيهم من الاتصال بثلث الشعب الامريكي تلفونيا او عبر الايميل لشرح وجهة نظر رئيس المستقبل والتوسل للحصول على صوت الناخب. والتبرعات تبدأ بعشر دولارات يقدمها الفقراء ولا تنتهي بمبالغ طائلة ينفقها عمالقة السوق. ان قيمة التبرع لعمل خيري في امريكا تصل الى ٢٥٠ مليار دولار سنويا. كيف تظهر الاشياء بحجم عملاق دائما هنا؟
كل شيء تقريبا علني.الامريكي يدخل على الموقع الالكتروني لمركز الانتخابات فيعمل بحث ويجد اسمه وكل تاريخه الانتخابي. يقول له الموقع من هم المرشحون في مدينته مع سيرة ذاتية تفصيلية عن كل واحد منهم وأرقام هواتف مكاتبهم كي يناقشهم في القضايا العامة لو أحب ذلك. الموقع يرشده الى المركز الانتخابي الأقرب عليه ويقترح له وقتا مناسبا للتصويت المبكر او ليوم الانتخابات منعا لحصول الازدحام والفوضى. ايضا الموقع يعرف الناخب بالمسؤولين عن المركز الانتخابي وسيرهم الذاتية وارقام هواتفهم واسم القاضي الذي سيشرف على الانتخابات في مدينته. كل هذا يجري لحث الناخب على التصويت.
المركز الذي زرناه مثل كل المؤسسات الانتخابية في امريكا، يعتمد في الغالب على متطوعين ومنظمات مجتمع مدني تدير مراكز الانتخابات كي لا يتحمل اعباء التوظيف لان مئات الامريكان مستعدون لانجاح الانتخابات بلا مقابل.
لم تكن الامور بهذا التنظيم قبل عشرين عاما، والتطوير مستمر ولا يتوقف كما تقول لنا السيدة التي تدير العمل، وتعتذر لان وقتها قصير فقد بدأ الناخبون بالادلاء بأصواتهم ونحو ٣٠ في المائة يصوتون مبكرا. في جورجيا وحدها تمكن مليون ناخب من التصويت قبل ١٠ ايام من الاقتراع المقرر اليوم الثلاثاء. وفي المدخل كان الامريكان يتوافدون للتصويت المبكر المتاح ويستخدمون نظام التصويت الذكي الالكتروني في قاعة "تشرح النفس".
التصويت يجري بأساليب كثيرة عبر البريد العادي، والايميل، وبالورقة والقلم، او عبر الة التصويت الالكتروني وهي كمبيوتر متوسط الحجم تضع الاف الاصوات في "رام" صغير مثل ذاكرة الكاميرا الشخصية وتحسبها في بضع ثوان ليجري جمعها لاحقا في خادم او سيرفر متطور لا يترك صغيرة ولا كبيرة الا احصاها.
منظمات المجتمع المدني تنشط هنا بمطالب تبدو متطلبة جدا. واحدة منها تتحدث علنيا عن التبرعات التي تستقبلها لتمشية الامور، فالشركات الكبرى تتبرع لدعم حقوق الاقليات خوفا من حملات مقاطعة البضائع التي ينظمها الناشطون، ومرشحو الانتخابات يتوسلون الحصول على اصواتهم، حتى المحفل الماسوني اهداهم نحو ٥٠ سيارة لنقل نشطائهم الى هذه المظاهرة او تلك الفعالية دعما لنضال السود. انه مجتمع مدني اذن.
تسأل السيدة السمراء التي تدير احدى المنظمات: ماذا تبقى من التمييز العرقي ضدكم؟ تجيب: ابي ومثله الاف السود ولدوا قبل تسعين عاما في المنزل ولم يصدر لهم احد يومها شهادة ميلاد، وهم يطالبونه اليوم كي يقوم بالتصويت بالحصول على شهادة ميلاد، مع انه خدم في الحرب الثانية. طيب لماذا لا يحصل على هذه الشهادة ليصوت؟ تجيبك بصدمة: كمواطنين امريكان نرفض ان تبتزنا الحكومة. هم يريدوننا ان ندفع نحو ٥٠ دولار رسوم الحصول على الجنسية لوالدي، ونحن لن ندفع. وسنعاقب كل مرشح لا يدعم الغاء هذا الرسم.
منظمة اخرى نسوية تعمل منذ ٤٠ سنة مسرورة لان الرجال هم اشد المناصرين لحقوق المرأة في امريكا. لقد حصلن على نحو ١٧ في المائة من المناصب القيادية في امريكا بلا كوتا ولا حصة خاصة، لكنهن غاضبات لعدم حصولهن على نصف المناصب على الاقل. اما في بعض المؤسسات المهمة فكل الطاقم الاداري الاعلى هو نساء، كما لاحظنا في مفوضية الانتخابات بمدينة اطلانطا عاصمة جورجيا. ان رئاسة ثلاث مفوضيات اخرى زرناها في ولايات اخرى كانت للنساء ايضا.
المنظمة النسوية تضع خمسة اسئلة لكل مرشح رئاسي ومثلها لكل مرشح للكونغرس او لبرلمان وحكومة الولاية، وتنتظر اجابته مدة اسبوع على قضايا الصحة والبيئة والتربية والضرائب، لكي تتيح للناخبات على موقعها الالكتروني صورة واضحة داخل استفهامات محرجة، والمرشح الذي يرفض الاجابة سيتعرض الى مقاطعة ملايين النساء المصوتات.
هذا النوع من فهم الحقوق هو الذي انتزع هذا المستوى من الحقوق كما يبدو. الحضارة الحديثة امرأة شجاعة لا تخاف ولا تقنع الا بالحد الاقصى من المطالب. انها انثى لا تخشى الرجال وتستجوب ساستها بقسوة.