صحيح أنها استعادت عافيتها وأصبحت خارج منطقة الخطر، لكن أيضاً من غير المعروف إذا كانت الفتاة ذات الأربعة عشر ربيعاً، ملالة يوسف ستعيش حياتها كما عاشت سابقاً، ليس بسبب الصدمة التي تعرضت لها بعد جريمة إطلاق النار عليها، بل أكثر بسبب الأعراض اللاحقة التي يمكن أن تكون نتجت عن إخراج الطلقة من رأسها. الجريمة التي حدثت في شمال غرب الباكستان قبل ثلاثة أسابيع والتي هدفت لتصفية ملالة يوسف كانت رسالة من أمراء الظلام لكل فتاة تتوق مثلها للعيش بحرية ودون وصاية. الطلقات الثلاث التي استقرت في كتف ورأس ملالة أطلقها إرهابيو طالبان. ليس ذلك وحسب، بل افتخر "رجال" طالبان باكستان مباشرة بعد ارتكابهم الجريمة في بيان صادر لهم بأنهم كانوا وراء الإعتداء، "أنها (ملالة) مناصرة للغرب، تحرض ضد طالبان وتصف الرئيس الأميركي باراك أوباما بأنه قائد مثالي"، هذا ما قاله حرفياً الناطق الرسمي باسم طالبان.
صورتها وهي في الغيبوبة بعد إخراج الطلقة التي استقرت في رأسها، دارت حول العالم، وجعلت الغضب يتصاعد ضد أمراء الظلام من طالبان وغيرهم. فأية شجاعة أن يُطلق رجال ملتحون يدعون الإيمان والإسلام النار على فتاة صغيرة عزلاء إلا من دفاترها وأقلامها؟ لا أعرف الدين الذي ينتمي له الإرهابيون هؤلاء، فمتى كان طلب العلم والتعلم جريمة؟ لكنني أعرف أخوة لهم أيضاً في العراق. جريمة ملالة يوسف وكل فتاة مثلها في عرف هؤلاء هو إصرارهن على التعلم، على الذهاب للمدرسة من غير المهم الخطر الذي ستتعرض الواحدة منهن له، لأنهن يعرف أنهن بهذا الشكل فقط يصبحن إنسانات.
ملالة يوسف التي عرفت ذلك مبكراً، لم تشأ أن تتمتع وحدها بهذا الامتياز: امتياز أن تصبح إنسانة، بل حرصت على أن تشاركها فتيات أخريات في هذا الامتياز، في هذه النعمة: نعمة التعلم. ولكي تشجع البنات الأخريات، بدأت وهي في الحادية عشرة من عمرها، بكتابة يومياتها باللغة الأوردية على صفحة الويب سايت لقناة البي بي سي البريطانية، وراحت تصف: كيف تقضي حياتها آنذاك في منطقة وادي سوات الخاضع لسيطرة الطالبان، كيف أنها تذهب إلى مينغورا للمدرسة الخاصة التي يديرها أبوها.
أبوها أيضاً كان عرضة لتهديدات طالبان الذين يرفضون زيارة البنات للمدارس ويعتبرونه تقليداً "غير إسلامي"، وكل ما هو غير إسلامي بالنسبة لهؤلاء القادمين من العصور ما قبل الحجرية يجب الحد منه، هذا ما جعلهم يغلقون مئات المدارس في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم.
ملالة يوسف التي تريد أن تصبح طبيبة، كما عبرت عن نفسها ذات يوم، وصفت في كتابتها على صفحة الويب في البي بي سي، كم هو مهم بالنسبة التعلم في المدرسة وكيف أنها ورغم كل تهديدات طالبان تصر على الذهاب إلى المدرسة. "أنا حزينة لأن عطلة الشتاء ستبدأ غداً"، كتبت في 14 كانون الثاني/ يناير 2009. "مدير المدرسة أعلن عن العطلة، لكنه لم يقل، متى تنتهي". مدرستها المهددة من طالبان ظلت مغلقة بعضاً من الوقت. قبل ذلك نزعت ملالة ومعها طالبات أخريات الزي المدرسي للحفاظ على حياتهن، ولكي - كما تكتب - لا يسمعن من المدير تحذيره لهن من لبس ملابس مزكرشة لأن ذلك سيستفز طالبان.
في عام 2009 أثار عرض شريط فيديو للإعدام الوحشي الذي نفذه طالبان بامرأة في ساحة عامة في وداي سوات أمام السكان، الغضب في صفوف الرأي العام، الأمر الذي جعل الجيش الباكستاني يقرر أخيراً بالهجوم على الوادي ويطرد طالبان من هناك. حتى ذلك الحين كان على عائلة ملالة أن تهرب أيضاً، ولم تعد إلا بعد سيطرة الجيش الباكستاني على وادي سوات مجدداً.
الفتاة ذات الأربعة عشر ربيعاً والتي سبق وأن أعلنت أنها ترغب بتأسيس حزب لتعلم البنات، حصلت على جائزة السلام الأولى في الباكستان. وهذا ما جعلها تصبح معروفة. ومن أجل تهدئة الرأي العام أعلنت السلطات الباكستانية مباشرة بعد محاولة اغتيالها عن إلقاء القبض على المجرمين الذين حاولوا قتلها: خمسة رجال!!! خمسة رجال "مؤمنين"، ضد فتاة صغيرة عزلاء، عن أي إسلام يتحدث المجرمون هؤلاء!!؟ صحيح أن رئيس الحكومة الباكستانية زار الفتاة آنذاك في المستشفى وأعلن عن إصرار الحكومة على محاربة المتطرفين "لإنقاذ أطفالنا"، كما صرح أمام الصحافة حرفياً، لكن المحليين والمعلقين لا يخفون شكوكهم من عدم جدية السلطات بالردّ بالطريقة الصحيحة. ليس في الباكستان فقط، بل في كل مكان في منطقتنا، يصول ويجول الظلاميون بحريتهم وباسم الدين، والسياسيون ماذا يفعلون؟ لا شيء. على العكس، لو سكتوا أحسن، لأنهم كلما نطقوا كلما صبوا الزيت "الظلامي" في نار "الإرهاب".
ملالة يوسف هي أكثر شجاعة من آلاف السياسيين. فلنرفع لها قبعاتنا إذاً!