المحطة الأولى : الحرية الاقتصادية
طيلة عقود ساد الفكر الكينزي القائم على تدخل الدولة الفعال في الحياة الاقتصادية لضبط الأسواق ومعالجة اختلالاتها وصولا إلى أعلى نسبة تشغيل للطاقات الإنتاجية والعمالة وضبط التضخم. انطلق الفكر الكينزي من منطلقات موضوعية أهمها عدم قدرة الأسواق بحد ذاتها على ضبط الاقتصاد إلا بكلف اقتصادية واجتماعية عالية جدا ،وبعبارة أخرى إن قوى السوق ستؤدي إلى حالات انكماش وازدهار متعاقبة تأخذ مديات زمنية ليست قصيرة وتؤثر سلبا أو إيجابا في كافة أوجه الحياة ،ولذلك فإن دور الدولة أصبح جذريا لضبط إيقاع النشاط الاقتصادي,رافق هذه الرؤية من الناحية التأريخية المنافسة الشديدة بين الفكر الاشتراكي وتطبيقاته والفكر الرأسمالي وضرورة السعي لانتصار الفكر الرأسمالي في مواجهة ظواهر التشغيل الكامل وعدالة التوزيع والرعاية الصحية والاجتماعية ومجانية التعليم في المجتمعات الاشتراكية.
حقق الفكر الكنزي انتصارات كبيره ونجح في قياده المجتمعات الرأسمالية باتجاه دولة الرفاهية ونشوء طبقة وسطى عريضة ولكنه في المقابل قلص نسبيا حجم أرباح قطاع الأعمال.
في المقابل تبنى ميلتون فريدمان وجامعة شيكاغو هجوما شرسا على الفكر الكنزي انطلاقا من أن الأسواق قادرة بحد ذاتها على تعديل نفسها بنفسها دون أي حاجة لتدخل الدولة,بل أن تدخل الدولة بأي شكل سيؤدي إلى تشويه الأسواق. يختصر دور الدولة طبقا لفريدمان في الجيش والأمن والقضاء (حماية النظام من الأعداء الخارجيين والداخليين) والإدارة العامة.
وتمثل ثالوث فريدمان المقدس في الخصخصة وتحجيم دور الدولة وتقليص الإنفاق العام.
طبقت نظرية فريدمان على يد ريغان وتاتشر وحققت نجاحات ملفتة على حساب أغلبية السكان الذين عانوا طغيان رأس المال وتراكم أرباحه بشكل فاحش مقابل نسب بطالة غير مشهودة سابقا وتدهور نظم الرعاية الاجتماعية والصحية.وتعززت هذه السياسة في ظل حكم بوش إلا أن الفقاعة انفجرت في أزمة 2008. تعززت فكر فريدمان في المؤسسات النقدية والمالية العالمية,وطبقت نظريته بشكل متوحش وكارثي في العديد من الدول مثل تشيلي 1973 وروسيا بعد 1990 وبولندا وغيرها حيث شكل مفهوم الصدمة وإعادة التشكيل الإطار العام للسياسة الاقتصادية (للتفاصيل يراجع عقيدة الصدمة لنعومي كلاين).
المحطة الثانية: احتلال العراق
اعتمدت الولايات المتحدة في حملتها لاحتلال العراق على مبدأ الصدمة والترويع لتركيع الشعب العراقي, وليس كما يقال زوراً فقط لإسقاط حكم صدام, وصولا إلى إعادة تشكيل وخلق الأمة في العراق الجديد.
تمت إشاعة الفوضى بشكل متعمد في كافه نواحي الحياة تحت عنوان الفوضى الخلاقة وكرست وشجعت مفاهيم وقيم مشوهة للحياة مثل الطائفية, النهب المنظم, الحرية المنفلتة, الكسب غير المشروع, الأنانية وعدم الاهتمام بالشأن العام.
أغرق البلد في أتون حرب طائفية شجعت بدعائم سياسية مثل مجلس الحكم والدستور وتشكيل الأحزاب,استخدمت مختلف الأدوات والوسائل بضمنها الأجهزة الحكومية .
لم يكن ذلك اعتباطا , نتذكر رأي رامسفيلد الداعي إلى البناء (اقرأ إعادة التشكيل) من الصفر. ينبغي لذلك تخلي المجتمع عن كل تراثه وميراثه الحضاري ومنجزاته عبر التأريخ وصولا إلى البناء من نقطة العدم والتشكيل أو الخلق والانطلاق من قيم جديدة مستوردة.
كانت أصوات المقاومة المجتمعية السلمية ضعيفة في مواجهة تسونامي هائل غير مسبوق وما زالت الأصوات المجتمعية مشتتة وضعيفة وتحارب بعنف من قبل قوى مشروع الانفلات.
المحطة الثالثة: الصدمة الاقتصادية
تمثلت الصدمة الاقتصادية , العاملة على إرجاع الاقتصاد العراقي إلى نقطة الصفر, بالإيقاف الكامل لقطاع الدولة الإنتاجي والسعي لخصخصته, والتسريح الكبير لشرائح واسعة من العاملين في قطاع الدولة, فتح أبواب التجارة(الاستيراد) دون أية ضوابط أو قيود, إشاعة الفوضى المالية والنقدية , فرض ضريبة ثابتة على الدخل طبقت أساسا على الموظفين.
تركت هذه الإجراءات الاقتصاد في حالة شلل وفوضى شاملة, وتوقف الإنتاج المحلي لعدم توفر مستلزمات الإنتاج الضرورية ولعدم القدرة على منافسه طوفان السلع المستوردة.
ازدهرت أنشطة الوكالات التجارية والعمل لصالح الشركات الاجنبية التي حصلت على كل العقود الممنوحة من قبل سلطة الاحتلال عدا هامش ضئيل لأعمال ثانوية.
لم تعد هناك سياسة اقتصادية,تجارية ومالية ونقدية,بل مجرد أدوات تنفيذ لسياسة سلطة الاحتلال. عمليا وصل الاقتصاد إلى مرحلة الصفر وأصبح جاهزا لإعادة التشكيل وفق المنظور الرأسمالي المنفلت.
المحطة الرابعة: السياسات الاقتصادية
انشغلت السياسة الاقتصادية في العام الأول للاحتلال (تحت إدارة بريمر) في معالجة اختناقات سابقة وآنية وتمثلت أساسا في إطفاء ديون الدولة الخارجية واستبدال العملة القديمة والسيطرة على سعر الصرف وتوفير السيولة النقدية الضرورية لأنشطة الدولة والمجتمع.
شكل التحول إلى اقتصاد السوق الأيقونة السحرية للسياسة الاقتصادية الجديدة فاختصر دور البنك المركزي إلى مجرد مصدر لتوفير الدولار عبر مزاد العملة دون أي اهتمام جدي بـ( التنمية المستدامة والتشغيل والرخاء الاقتصادي)كما هو منصوص في قانون البنك ممن ترك الفوضى تضرب أطنابها في طول السوق النقدية وعرضها (انظر ورقتنا التحليلية : الأزمة النقدية العراقية الراهنة: فقاعة زائلة أم مظهر لأزمة اقتصادية أعمق؟ أيار 2012) واختصرت السياسة المالية في مجرد تمويل مصروفات الحكومة.
على حد علمنا, لم توفر السلطتان النقدية والمالية أية دراسات تحليلية لمفاتيح أساسية في عملها مثل سعر الصرف الأمثل وأثره على التشغيل والإنتاج والميزان التجاري,الائتمان المصرفي, الرقابة على التحويل الخارجي (من المفارقات انه عوضا عن الاهتمام بهذا الجانب تم إلغاء دائرة الرقابة على التحويل الخارجي وكذلك دائرة الاعتمادات) , أثر الإنفاق الحكومي على التشغيل والإنتاج, أثر السياسة المالية على المؤشرات النقدية ,أثر السياسة المالية على توزيع الداخل .........الخ.
لم يكن ذلك مستغربا طالما أن سياسة الحكومة تفتقر إلى أي رؤية(ستراتيجيه) تنموية في ظل القناعة المطلقة بأن اقتصاد السوق هو المفتاح لكل أزمة والذي ترجم إلى سياسة اقتصادية منفلتة.
لم يكن ذلك إلا انعكاساً لنظرية فريدمان الداعية إلى ترك قوى السوق تتفاعل بحرية مطلقة وصولا إلى توازن(غير مخطط) حتى لو كان على حساب أغلبية السكان. فقد سعت سلطة الاحتلال ومن بعدها الحكومات المنتخبة إلى خصخصة الصناعة والنفط والصحة وغيرها إلا أنها واجهت مقاومة عنيفة من أصحاب الاختصاص والناس مما جعلها تؤجل هذه الخطوة.وبدلا من تفعيل هذه القطاعات تركت في ركود مقيت مازال قائما لحد الآن. ولمواجهة الاحتجاجات العريضة لم تستطع الحكومات المتعاقبة تقليص حجم الإنفاق الحكومي إلا انه ترك بدون تخطيط حقيقي ومدروس بل انصرف أساسا إلى تغطية نفقات الحكومة التشغيلية التي تميزت بالانفلات. أما دور الدولة فقد حجم بشكل ملفت للنظر فلم تعد القائد والموجه للحياة الاقتصادية والمجتمع وانسحب الدور إلى الأمن أساسا.
كل ذلك كان بتأثير ودفع شديدين من الخبراء الأجانب وصندوق النقد الدولي حيث لفكر فريدمان هيمنة واضحة. وقد ترجم هذا التأثير إلى اتفاقيات ملزمة غير معروفة التفاصيل مع صندوق النقد الدولي. بلغ من شدة التأثير أن نلاحظ أن دراسات رصينة لبعض الخبراء تنشر على موقع البنك المركزي مع التأكيد أنها لا تعبر عن رأي البنك! أي لا تعتمد في رسم السياسات حيث تعتمد سياسات أخرى تتواءم مع توجيهات الصندوق.
المحطة الخامسة: أزمة الشبيبي /المركزي أم أزمة السياسة الاقتصادية عموماً
نزعم أن الأزمة الراهنة لا تتعلق بشخص الشبيبي وهو اقتصادي مرموق يحظى باحترام كبير ولا بكادر البنك قدر ما تتعلق بالسياسة الاقتصادية عموما.
نحن نفهم أن البنك المركزي مستقل ولكن في إطار تنفيذ إستراتيجية اقتصادية عامة تكون ملزمة في اتجاهاتها العامة للبنك المركزي ووزارة المالية لتحقيق الأهداف المتوخاة.
ويأتي الاستقلال بعد إقرار الإستراتيجية الاقتصادية لإبعاد البنك وسياسته عن الأهواء السياسية الآنية والمصالح السياسية قصيرة الأجل لمختلف الكتل السياسية وإبعاد ه عن أهواء الحكومة المتأثرة بالصراعات السياسية.
ضمن هذا الفهم , يكون البنك المركزي صمام أمان لاحتياطي العملة الصعبة باعتباره احتياطياً للبلد وللعملة المحلية. وقد اشترطت الدولة على البنك المركزي عدم التصرف بهذا الاحتياطي إلا ضمن القانون أي قانون البنك المركزي وقد منع القانون الحكومة من التلاعب بهذا الاحتياطي لأي غرض كان. ويحاسب القانون البنك المركزي إذا ما أخفق في الحفاظ على احتياطي ملائم وزيادته وإذا ما أخفق في دعم استقرار العملة المحلية أو الوفاء باحتياجات الاستيراد. ويحاسب البنك المركزي إذا ما اعتمد سعر صرف للعملة المحلية مغالى به (كما هو الأمر حاليا") يؤدي إلى تعظيم الواردات ويعوق نمو الناتج المحلي.
وتحاسب الحكومة , كما يفترض, إذا ما أخفقت في إدارة مواردها المالية بالشكل الذي يحقق تنمية مستدامة. وتحاسب الحكومة إذا ما رسمت إستراتيجيه تؤدي إلى الإضرار بقيمة العملة المحلية نتيجة تحرير الاستيراد وتعويق الناتج المحلي.
تركزت سياسة الحكومة الاقتصادية ,متأثرة بالنصائح الغربية, في دعم الحرية الاقتصادية المنفلتة وكان البنك المركزي أداة طيعة لها. يلام البنك المركزي وقيادته أخلاقيا لعدم معارضته توجهات الحكومة وبيان آثار سياستها المنفلتة على الحياة الاقتصادية وحياه الناس ولكن من المعيب التشكيك بنزاهتهم.
إن عزل قيادة البنك المركزي هو محاولة لإلقاء اللوم على البنك المركزي فقط وتنزيه الحكومة عن سياستها الاقتصادية المنفلتة والفاشلة ولن يجدي ذلك نفعا مادامت الإستراتيجية باقية بدون تغيير. لاشك أن تشديد الضوابط على تحويل العملة الصعبة سيؤدي إلى انخفاض ظاهرة هروب العملة الصعبة إلى الخارج ولكنه مجرد إجراء ترقيعي في ظل غياب إستراتيجية اقتصادية وطنية تعمل على ترسيخ تنمية مستدامة.
المطلوب هو تبني إستراتيجية اقتصادية سليمة تنمي الاقتصاد وتوفر الرخاء .
إن الهروب إلى أمام ليس حلاً.
* اقتصادي عراقي