من باب الطرفة، نشر صديق كلمة فحواها: "يُروى أن الدوق دوشاروست كان في العربة التي تسوقه إلى المقصلة يطالع أحد الكتب، وقبل صعوده الدرجات نحو الإعدام ثنى زاوية الصفحة". توالت التعليقات التي اعتبرتْ غالبيتها الأمرَ مفارقة ذات مغزى. هذا الدوق رجلٌ حقيقي هو "duc de Chârost" (1738-1800) والحكاية مروية عنه بالفعل، نقلاً عن مذكرات الجلاد الفرنسيّ شارل-هنري سانسون Charles-Henri Sanson (1739- 1806)، بتغييرات طفيفة. أما المذكرات فيرويها حفيده، ومطبوعة بعدة مجلدات تحت عنوان "سبعة أجيال من منفّذي الإعدام 1688-1847: مذكرات آل سانسون". منها الجزء الرابع 1863 الذي يمكن شحنه مجاناً من النيت، وهو ما فعلته من باب الفضول، وشرعتُ بقراءته. كان سانسون يقود المحكومين بالإعدام إلى المقصلة وينفّذ بهم الحكم المقزّز. كان عليه أخذهم من السجن إلى ساحة عامة، غالباً ميدان الجمهورية أو الثورة في باريس، حيث تحتشد الجماهير صاخبة متوترة، بل "مرحة". سانسون الذي كان نصيراً متحمّساً لحكم الإعدام واستخدام المقصلة لقطع دابر أعداء الثورة الفرنسية، هو من قطع رأس آخر ملوك فرنسا لويس السادس عشر وعدة مفكّرين فرنسيين مثل روبسبير، من بين المئات من كبار العسكريين والدوقات والنبلاء ومؤيدي الملكية من الرجال والنساء، الشبان والكهول. وحسب المذكرات فإن بلزاك قد التقى مطوَّلاً واستنطق وأفاد من مرويات عائلة سانسون لكتابة بعض أعماله الروائية.
المثير أن هذا الجلاد كان شغوفا بالأدب. كان يحب العزف على الكمان والتشيلو، وكانت تربطه صداقة حميمة مع توبياس شميدت، صانع ألمانيّ للآلات الموسيقية، سيُنجز له في نهاية المطاف مقصلة جديدة لعلها من الخشب ذاته الذي صنع له فيه آلاته الموسيقية. وهنا شيء مَرَضِيّ عميق لن يفسّره التوغّل في قراءة المذكرات التي ستدلّ على معارفه في التاريخ والدين والأسطورة والشعر والفن وغير ذلك. في أحد الفصول يتحدث بإعجاب عن الرسّام جان-جاك أوير Hauer الذي رَسَمَ لشارلوت كوردي Charlotte Corday بورتريهاً قبل ذهابها للمقصلة. كان سانسون مِثلياً حسب قراءات الباحثين لتلميحاته هنا وهناك.
إن الرعب المبثوث في المذكرات لا يُقارن بالرعب الذي بثّه فينا ويبثّه جلادونا العرب، مع فارق أساسي واحد: أن بعض قادتنا ورؤسائنا وولاة أمرنا لا يمتلكون الثقافة بل الهوامش الثقافية التي كان يمتلكها آل سانسون، حتى أن منهم من لا يستطيع أن يقول جملة عربية سليمة واحدة، ناهيك عن المعارف التي يمتلكها قادة العالم المعاصرون لهم. وهذا درسٌ أساسيّ من مذكرات آل سانسون.
أضفْ لذلك أن انتباههم لبسيكولوجيا الجماهير قد ينقلنا إلى نقد مفكّر مثل التوحيدي لرعاع "العامّة" في زمانه. يقول الحفيد سانسون: "عندما كنت أمارس مهامي، كنت أنتبه غالباً لملامح وجوه هُواة العواطف المتأجّجة الذين كنتُ أراهم يحتشدون حولنا. غالباً ما كانت هذه الملامح تحمل بصمةً لفضولٍ غبيّ، [خلاف ما عليها أن تعكسه] من رعب واشمئزاز، فلم أرهم البتة يُعبّرون عن شراهةٍ وحشية، عن هذيان حيوانٍ بريّ، عن سكرة الموت التي كان أبي قد لاحظها مراراً وتكراراً لدى من كانوا في [مركب المحكومين]" (60-61 ترجمتي).
ثم "فلسفة" أبيه عن الموت التي قد تذكّرُنا بالقتلة البلغاء من الخلفاء والقادة في تاريخنا العباسيّ. كان الجلاد الفرنسيّ يقول لسيدة رأت حبيبها تحت المقصلة: "يتعلم المرء الموت وهو يرى موتَ من يُحبّ، سيدتي"(90).
وفي لقطة مرعبة مروية عن سانسون الأب بعد لحظات من إعدام شارلوت كوردي المذكورة يرِدُ: "ثمة نجّار اسمه لوغرو كان يعمل نهاراً في إصلاح المقصلة، التقط رأس المواطنة كوردي وعرضه للجمهور. رغم أني كنت متآلفا مع هذا النوع من المشاهِد، فقد أصبتُ بالخوف: بدا لي أن عينيها نصف المفتّحتين كانتا تستديران نحوي، ووجدتُ فيهما تلك العذوبة العميقة التي لا تقاوَم والتي طالما أدهشتني" (149). الضحية تحدّق بالجلاد وتخيفه وتحاكمه، وهو يعلن، ببلاغة، رعبه في تلك اللحظة، وهو ما لا نعرف له مثيلاً في تاريخ جلادينا القديم والمعاصر. يا لحظنا العاثر حتى من جلادينا،الفعليين والرمزيين.
جميع التعليقات 1
شامة ميرغني
كاتبة روائية سبق لها الفوز بجائزة الطيب صالح التقديرية للابداع الروائي مقيمة بجدة