بعد ثلاثة أسابيع على تدمير مجمع صناعي عسكري في السودان بغارة جوية لم تتبناها أي جهة، خرج المشير عمر البشير عن صمته، مهدداً إسرائيل برد موجع، وبما يعني أنه يتهم الدولة العبرية رسمياً بشن الغارة التي دمرت مصنع اليرموك، وقد فسر البعض التأخر في التهديد بأنه ناجم عن الوضع الصحي للبشير، حيث خضع لعملية جراحية في السعودية، فيما رأى بعض الخبثاء ساخرين، أنه كان ينتظر استكمال الخطط والاستعدادات لرده الموجع، ويمضي هؤلاء في سخريتهم السوداء، إلى تصور أن حالة الطوارئ القصوى أعلنت في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تحسباً من " الوجع "، وأن العقول المتخصصة بالعلوم الإستراتيجية والعسكرية مستنفرة على مدار الساعة، لمواجهة مخططات المشير، الذي لم نسمع يوماً أنه خاض معركةً وانتصر فيها، باستثناء انقلابه العسكري الذي حمله إلى موقع رئيس الجمهورية، ليتمسك به بالنواجذ، رغم فقدانه نصف البلاد، التي انفصلت لتؤسس جمهوريةً جديدةً، على أنقاض ما كان يعرف بأكبر دولة إفريقيه.
تصريح البشير، الذي جاء على شكل رسائل نصية عبر الهواتف الخليوية، وليس من خلال مهرجان جماهيري يهز فيه عصاه، وهو يستعرض سباقاً للجمال والخيول، لا يعدو كونه من زائد الكلام، ولولا رغبة في الخوض في تفكيره القائم على القول بدلاً من الفعل، لما كان كل ما أعلنه يستحق مجرد التوقف عنده، فالرئيس الذي لم يتمكن من حسم معركته مع المعارضين من أبناء شعبه، وما زال يتخبط في التعامل مع المتمردين على دكتاتوريته، في غير موقع من البلاد، يهدد برد موجع لدولة لا بد من الاعتراف بأنها الأقوى في هذه المنطقة، والقادرة فعلاً لا قولاً على إنزال الوجع بدولة فاشلة مثل السودان، وإذا كنا على البعد لا نرى في تهديدات البشير، المطارد من الجنائية الدولية، غير الخواء، فلنا أن نتصور حجم المرارة التي ضربت نفوس السودانيين المنكوبين بحكمه المستمر منذ سنوات، لم يعرفوا فيها غير الدم والفقر والرجوع إلى الوراء.
وإذا كنا لا نصدق تهديدات "الوجع"، لأننا نعرف مدى ضعف حكم البشير، فإن المؤكد أنه نفسه لا يصدقها، إلا أن كان يفكر بتبني عمليات انتحارية، لا نعتقد أن سودانياً واحداً، ولو كان شديد الولاء للمشير، ومؤمناً بكل سياساته، على استعداد للقيام بها، والمؤكد أن من أطلق تصريحاً عرمرمياً كهذا، يحتاج تنفيذه لغير هذه الدولة وغير هذا الرئيس، يعتمد على فضيلة النسيان، التي تتمتع بها شعوبنا العربية، والتي نسيت التصريح فور الانتهاء من مطالعته على الهاتف، لكنها لن تتمكن من نسيان الوجع الناجم عن فشل السودان في التصدي، ولو شكلياً، للغارة الجوية التي تمكنت من الوصول إلى مشارف الخرطوم، التي احتضنت يوماً ما مؤتمر قمة تبنت لاءات ثلاثة، لم تخلف لشعوب أمتنا غير الوجع.
وجع إسرائيل على يد البشير نكتة سوداء، لكن وجع السودانيين على يديه أمر مؤكد ومثير للوجع الحقيقي.