TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > أحجية البنك المركزي ثانية

أحجية البنك المركزي ثانية

نشر في: 10 نوفمبر, 2012: 08:00 م

لا تزال قضية البنك المركزي تمثل أحجية لم يفك لغزها بعد، ولم يهتم أحد من المسؤولين بإعلام الشعب، الذي يفترض انه مصدر كل السلطات، أو نتوهم أنه كذلك! بحيثيات هذه القضية التي تعكس -كما بينا في مقالة سابقة أزمة "الدولة" العراقية - ما الذي جرى و يجري   بالضبط! فمجلس النواب، الذي عده رئيس الوزراء الفاعل الرئيس في أزمة البنك المركزي الأخيرة، اجتمع يوم الثلاثاء الماضي 6/11/2012 لمناقشة ما أسماه "سياسية البنك المركزي"، ليؤكد هذه المسؤولية. إذ أكد النائب قصي السهيل نائب رئيس المجلس أن اللجنة التحقيقية المشكلة برئاسته قد أحالت تقريرها "إلى هيئة النزاهة ومن ثم إلى القضاء".علما أنه ليس من حق اللجنة، أو حتى رئاسة المجلس اتخاذ هكذا إجراء، وكان يفترض أن تقدم هذه اللجنة نتائج تحقيقها أمام المجلس كما تقرر ذلك المادة 85 من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تنص على أن "ترفع اللجنة بعد إنهاء التحقيق تقريرها وتوصياتها إلى هيئة الرئاسة لعرضها على المجلس لاتخاذ ما يراه مناسباً". وحيث أن  اللجنة لم تعرض تقريرها وتوصياتها على المجلس مجتمعا، فان ما تم اتخاذه من إجراءات تعد باطلة. والأهم هنا كيف قبلت هيئة النزاهة ومن ثم القضاء اتخاذ إجراءات قانونية من دون التحقق من مدى قانونية التقرير أساسا؟
ولم يقتصر استمرار الأحجية على مجلس النواب وحسب، وإنما تعدى الأمر ذلك ليصل إلى تصريحات رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي، ففي إجابة له عبر نافذة التواصل مع وسائل الإعلام الخاصة بالموقع الالكتروني للمكتب الإعلامي بتاريخ 24/10/2012 وردا على سؤال يتعلق بمذكرة اعتقال محافظ البنك المركزي وإذا ما كان ثمة دوافع سياسية لذلك، قال: "لا يخفى أن للحكومة اختلافات كثيرة مع إدارة البنك المركزي ولديها ملاحظات جدية حول الكثير من نشاطه والسياسة النقدية وغير ذلك، لكن القضية الأخيرة لم يكن للحكومة صلة بها"، وأضاف إن ماجرى كان نتيجة تقرير اللجنة البرلمانية التحقيقية المرسل إلى هيئة النزاهة دون أن يمر على الحكومة. وتثير إجابة المالكي علامات استفهام كبيرة:
أولها أن رئيس مجلس الوزراء أشار قبل هذا إلى إصدار المحكمة الخاصة بالنزاهة "أوامر القبض على محافظ البنك وعدد من موظفي البنك للتحقيق معهم، وصوت مجلس الوزراء بالإجماع تقريبا بعد حصول هذه التطورات على تكليف رئيس أحد أكبر المؤسسات الرقابية المستقلة والمرتبطة هي الأخرى بمجلس النواب، الدكتور عبد الباسط تركي رئيس ديوان الرقابة المالية، القيام بمهام البنك حتى إشعار آخر". والنص يوحي بأن قرار التكليف جاء لاحقا لصدور أمر القبض وهذا غير صحيح؛ فقد أعلن قرار تكليف الدكتور تركي يوم الثلاثاء 16/10/2012 وصدر أمر إلقاء القبض يوم الخميس 18/10/2012 ولم يعلن رسميا إلا يوم الجمعة 19/10/2012. فقد أصدر المشرف على المركز الإعلامي للسلطة القضائية عبد الستار البيرقدار يوم الخميس 18/10/2012 إيضاحا بين فيه أن "قضية الشبيبي معروضة حاليا أمام هيئة قضائية تابعة لمحكمة النزاهة في الرصافة". ثم عاد المشرف نفسه ليصرح يوم الجمعة 19/10/2012 أن "السلطات العراقية [!] أصدرت أوامر اعتقال [!] بحق محافظ البنك المركزي العراقي السابق [!] سنان الشبيبي وبعض المسؤولين الآخرين" (السومرية نيوز 19/10/2012).
ثانيهما أن رئيس مجلس الوزراء تحدث عن قرار صادر عن مجلس الوزراء بتكليف الدكتور تركي من دون أن يتحدث عن موقف الدكتور سنان الشبيبي القانوني، خاصة وأن مجلس الوزراء لا يملك صلاحية إقالة محافظ البنك المركزي من حيث الأصل. إن مراجعة قانون البنك المركزي العراقي (الأمر رقم 56 الصادر في آذار 2004) يكشف أن رئيس الوزراء لا يحق له القيام بإقالة محافظ البنك المركزي ونائبيه أو أي عضو من أعضاء مجلس إدارة البنك.
ثالثا، إذا كان ثمة قرار لمجلس الوزراء بتكليف عبد الباسط تركي "بالإجماع تقريبا" بتولي منصب محافظ البنك المركزي وكالة كما يقول رئيس مجلس الوزراء ، فلماذا لم نجد هذا القرار ضمن قرارات مجلس الوزراء في الجلسة رقم 45 في 10/16/ 2012 المدونة على موقع رئاسة الوزراء التي خلت من أية إشارة إلى هذا التكليف المفترض. بل أكثر من ذلك، فهذا القرار "المفترض" جاء مناقضا لما ورد في قرار آخر لمجلس الوزراء في الجلسة نفسها أقر فيه توصيات لجنة دراسة تذبذب سعر صرف الدينار العراقي، كما أخذ، وهذا الأهم، بمقترحات البنك المركزي بتشكيل "لجنة برئاسة ممثل عن ديوان الرقابة المالية وعضوية ممثلين عن وزارات الداخلية والمالية والتجارة والبنك المركزي العراقي والأمانة العامة لمجلس الوزراء تتولى تدقيق ومراجعة عمليات بيع العملة لغرض تحديد مواقع الخلل إن وجدت ونقاط الضعف والقوة ومدى الاستفادة من المبالغ المباعة وتناسبها مع كمية البضاعة والخدمات الداخلة واقتراح الإجراءات للحد من تسرب العملة لغير الغرض المذكور آنفاً". أي أن مجلس الوزراء في جلسة يوم 16/10/2012 لم يكن يمتلك أية معطيات عن وجود خلل في عملية بيع العملية.
رابعا، أشار رئيس مجلس الوزراء إلى أن محكمة النزاهة قامت "بإصدار أوامر القبض على محافظ البنك وعدد من موظفي البنك للتحقيق معهم". ومن المعروف أن جرائم الفساد التي حددها قانون الهيئة رقم 30 لسنة 2011 لا تتضمن المادة التي أحيل محافظ البنك المركزي بموجبها إلى القضاء، فقد حددت المادة 1 من القانون قضية الفساد بأنها "هي دعوى جزائية يجري التحقيق فيها بشأن جريمة من الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة وهي الرشوة والاختلاس وتجاوز الموظفين حدود وظائفهم ، وأية جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المواد 233 و 234 و 271 و 272 و 275 و 276 و 290 و 293 و 296 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل ، وأي جريمة أخرى يتوفر فيها احد الظروف المشددة المنصوص عليها في الفقرات 5 و 6 و7 من المادة 135 من قانون العقوبات النافذ المعدلة بالقسم )( 6) ( من القانون التنظيمي الصادر عن مجلس الحكم المنحل الملحق بأمر سـلطة الائتلاف الموقتة المنحلة المرقم ) 55 ( لسنة 2004" .  وعلى الرغم من أن الناطق باسم مجلس القضاء الأعلى لم يشر إلى رقم المادة التي صدر بموجبها أمر إلقاء القبض، وكذلك رئيس الوزراء، إلا أن الأخبار أشارت إلى أن محافظ البنك المركزي العراقي أحيل وفق المادة 340 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 التي تنص على أن: "يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس كل موظف أو مكلف بخدمة عامة احدث عمدا ضررا بأموال أو مصالح الجهة التي يعمل فيها أو يتصل بها بحكم وظيفته أو بأموال الأشخاص المعهود بها إليه".  وهذا يعني أن محافظ البنك المركزي مطلوب للقضاء في قضية لا علاقة لها بقضايا الفساد، والسؤال هنا كيف يمكن لهيئة النزاهة أن تحيل إلى القضاء قضية ليست من اختصاصها، وكيف يمكن لمحكمة النزاهة أن تصدر أمر إلقاء قبض وفق مادة لا تدخل ضمن قضايا الفساد؟  
ولم يقف الأمر عند هذا التصريح، فقد عاد رئيس مجلس الوزراء إلى موضوع البنك المركزي مرة أخرى يوم الاثنين 5/11/2012 في لقاء تلفزيوني على قناة السومرية. وكنا هذه المرة أمام وقائع مختلفة تماما عما ورد في إجابته المتقدمة المنشورة على موقع رئاسة مجلس الوزراء، وهي وقائع تناقض ما ورد في قرارات مجلس الوزراء.
قال المالكي هذه المرة إنه "شكل لجنة من ديوان الرقابة المالية ومن اختصاصيين للتحقيق في وضع السياسة النقدية والمخالفات الموجودة"، موضحاً إن تقرير اللجنة تضمن العديد من المخالفات، وبناءً على نصائح من البعض تم التريث انتظاراً لتقرير صندوق النقد الدولي والبنك المركزي". منوّهاً إلى أن "المعترضين من مجلس النواب والسياسيين وأئمة الجمعة في البلاد لا يعرفون حقائق قضية البنك المركزي". كما أكد  أنه "يلتزم بالدستور الذي نص على أن مجلس الوزراء مسؤول عن السياسة النقدية والمالية".وهنا تطفو تساؤلات أخرى محيرة:
فهو يتحدث عن لجنة تحقيق قام بتشكيلها ضمت "ديوان الرقابة المالية ومن اختصاصيين للتحقيق في وضع السياسة النقدية والمخالفات الموجودة"، وأن هذه اللجنة قدمت تقريرا "تضمن العديد من المخالفات" ويقول إنه لم يتخذ أي إجراء "انتظارا لتقرير صندوق النقد الدولي والبنك المركزي". وهذا الكلام يخالف تماما ما ورد في قرارات مجلس الوزراء في الجلسة رقم 45 في 16/10/ 2012 التي أشرنا إليها سابقا. والتي قررت تشكيل لجنة "تتولى تدقيق ومراجعة عمليات بيع العملة لغرض تحديد مواقع الخلل إن وجدت".  والسؤال هنا هل هذه اللجنة التي شكلها رئيس الوزراء شخصيا للتحقيق في هذه المسألة هي غير اللجنة التي شكلها مجلس الوزراء؟ وإذا كان الأمر كذلك لماذا لم يشر أحد إلى هذه اللجنة أو نتائج عملها؟ وإذا كانت هذه اللجنة التي تضم ديوان الرقابة المالية قد انتهت إلى وجود مخالفات لماذا لم تتم الإشارة إلى ذلك في جلسة مجلس الوزراء المتقدمة؟ وكيف يمكن تفسير تشكيل لجنة أخرى تضم ديوان الرقابة المالية أيضا "لتحديد مواقع الخلل إن وجدت" في موضوع بيع العملة والذي يعني أن مجلس الوزراء في جلسة يوم 16/10/2012 لم يكن يمتلك أية معطيات عن وجود خلل في عملية بيع العملة؟ ثم ما علاقة صندوق النقد الدولي بالقصة كلها؟  
ثم يقول رئيس مجلس الوزراء أنه "يلتزم بالدستور الذي نص على أن مجلس الوزراء مسؤول عن السياسة النقدية والمالية". ولا نعرف ما الذي استند إليه المالكي في هذا التصريح، فالمادة 110 /ثالثا من الدستور العراقي نصت  على أن من السلطات الحصرية للسلطات الاتحادية: " رسم السياسة المالية، والكمركية، وإصدار العملة، وتنظيم السياسة التجارية عبر حدود الأقاليم والمحافظات في العراق، ووضع الميزانية العامة للدولة، ورسم السياسة النقدية وإنشاء البنك المركزي، وإدارته" . ومصطلح السلطات الاتحادية يتضمن مجلس النواب ورئيس الجمهورية ولا يقتصر على مجلس الوزراء بدلالة المادة 47 من الدستور. وإلا كيف يمكن أن يكون إنشاء البنك المركزي من اختصاصات مجلس الوزراء وهو أمر تشريعي بحت؟ بل إن قرار المحكمة الاتحادية المثير للجدل بشأن الهيئات المستقلة نفسه لم يعط للحكومة صلاحية التدخل في السياسة النقدية التي هي من الاختصاصات الحصرية للبنك المركزي.
ولعل الأهم في كل ما ذكرنا أن المالكي يعترف رسميا بأن الحكومة أرادت التدخل بقضية السياسة النقدية، وبهذا تتأكد حقيقة رغبة الحكومة في التدخل بعمل البنك المركزي كما ألمح في مناسبات كثيرة الشبيبي نفسه، وهو ربما ما يفك بعضا من طلاسم هذه الأحجية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

العمودالثامن: نظرية "كل من هب ودب"

العمودالثامن: كيف ننجو؟

 علي حسين عام 1965 قرر رئيس وزراء ماليزيا آنذاك، تونكو عبد الرحمن، أن يطرد سنغافورة من الاتحاد الماليزي، في ذلك الوقت سأل أحد الصحفيين رئيس وزراء سنغافورة ماذا سيفعل؟ كانت الجزيرة بلا موارد...
علي حسين

باليت المدى: بين الحقيقة والخيال

 ستار كاووش خرجتُ من متحف لام وأنا مُحَمَّلٌ بفتنة الأعمال الفنية والابتكارات المختلفة التي ملأت صالات العرض. وما أن وضعتُ قدمي خارج الباب الزجاجي للمتحف، حتى إنعكس لون الحديقة الأخضر على وجهي. حديقة...
ستار كاووش

الزوجَة الطِفلَة بين التراجيديَّة والكوميديَّة الفقهيَّة

د. لؤي خزعل جبر مِن علاماتِ شعبويَّة ووهميَّة الجدل بين المُنتقدين والمؤيدين للتقنين الفقهي الشيعي ما يسود بخصوص معقوليَّة زواج المرأة بعمر التاسِعَة، إذ يرى المُنتقدون إنَّ المرأة في التاسعة طِفلَة، ويقبُح تزويجُ الطِفلَة،...
د. لؤي خزعل جبر

أكثر من حرب على صوت المرأة

حازم صاغية حينما يوصف أحدهم بأنّه "مسموع الصوت"، يكون المقصود أنّه مؤثّر أو نافذ. فالصوت أداة قوّة وتمكين، ولأنّه كذلك كان مَن يطالب أو يحتجّ "يرفع صوته"، فحين لا يُلبّى طلبه يرفعه أكثر إلى...
حازم صاغية
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram