دخلت الأزمة السورية شهرها الحادي والعشرين، ويمكن أن تستمر على نفس الوتيرة المرعبة من الموت والدمار، اذا لم يطرأ تغيير على المعادلة القائمة، مثل انقلاب عسكري أو انتصار طرف على آخر أو الشروع في تسوية سياسية.
هذه الاستمرارية تجعل الثورة السورية مختلفة تمام الاختلاف عن ثورات بلدان "الربيع العربي" الأخرى. وقد لا تكون الاستمرارية الطويلة فوق العادة هي الاختلاف الوحيد، لكنها الاختلاف الأهم. فليس من المعتاد أن تتوفر لدى شعب من الشعوب مثل هذا النفس الطويل، وهذه القدرة على بذل التضحيات، وهذه الطاقة على المقاومة، من اجل اسقاط نظام حكم.
ان توفر مثل هذه القدرات يرتبط عادة بنضالات الشعوب من اجل التحرر من الاستعمار او الاحتلال الاجنبي، لأنها تتغذى بعوامل مقدسة وتاريخية كالدين والثقافة الاجتماعية وكراهية الأجانب التي هي عاطفة بشرية قوية وقديمة. تضاف اليها أسباب حديثة مثل الشرعية الدولية لحق تقرير المصير. كل هذه العوامل تفسر قدرة حروب التحرر الوطني على الاستمرار سنوات طويلة، وعلى انتصار شعوب بسيطة على قوى عظمى، كما في أمثلة الجزائر وفيتنام وأفغانستان.
لكن لا وجود لمثل هذه العوامل في حالة ثورة شعب على نظامه السياسي. ان عمر مثل هذه الثورات عادة قصير، سواء نجحت أم فشلت. فلماذا تطول الثورة السورية وتستمر كل هذا الوقت؟
"الديمقراطية" لا تملك في سورية، ولا في كل هذا الجزء من العالم، رصيدا كبيرا يؤهلها لكي تكون قضية الشعب الكبرى التي يمكن أن يبذل من أجلها الغالي والنفيس. كما ان الديمقراطية بحد ذاتها ليست قوة جماهيرية محارِبة طويلة النَفَس. فهي ليست فكرة أو عقيدة ذات جاذبية شعبية وانما حزمة اجراءات معقدة تشتغل في اطار "عملية" أو "صيرورة".
والثورة على الدكتاتورية ليست بالضرورة ديمقراطية. الثورة قد تكون أداة لانهاء الخوف، وتحريك السياسة، ومواجهة الفساد. وهذه هي بعض نتائج ثورات "الربيع العربي". ولكن هذه الأشياء ليست هي الديمقراطية.
وعلى العكس من ذلك يمكننا منذ اليوم أن نتوقع حال سورية فور سقوط نظام الأسد: تراجع حقوق المرأة، التضييق على الأقليات، تقليص بعض الحريات الاجتماعية والفكرية، مع أحداث عنف ومظاهر فوضى. ما يعني، ببساطة، أن الديمقراطية ليست هي الهم الوطني في سورية. انما الهم هو كراهية حكم "الجمهورية الوراثية" القاسية والفاسدة، ثم كراهية الأغلبية السنية لما تعتبره حكم الطائفة العلوية.
إن "الطائفية" هي العامل الأقوى، وليس الأوحد، في تفسير استمرارية الثورة السورية. الطائفية السياسية خليط تفجيري صاعق، مركب من العقيدة الدينية والعصبية الاجتماعية، ذو قدرات هائلة على شحذ العواطف وشد العزائم واكتساب ملكات التحشيد والمقاومة والتضحية. هذا هو العامل الأساس. وكل ماعداه من عوامل يبدو ثانويا بما فيها الدعم الخارجي، على أهميته.
ولعل هذه هي المفارقة الأشد إيلاما في أحوال شعوب عربية كسورية. فالدكتاتورية أفقرت الشعب الى درجة تصفيره من أي وسائل مقاومة حديثة، ما اضطره الى السحب من رصيد الماضي التقليدي. لم تبقِ الدكتاتورية لدى شعبها أسلحة مقاومة غير الطائفية والعشائرية والأصولية. فإذا ما سقطت الدكتاتورية بدا الشعب وكأنه حذف مائة عام من "حداثته"، وعاد ليبدأ من نقطة الصفر، من نقطة انطلاقه الأولى الى العصر الحديث. هذا ما حدث في العراق. وهو غالبا ما سيتكرر في سورية.
قرن من الضياع. هذا كثير للغاية. وثمة زيادة عليه طالما استمر الإفتقار الى الشعور بالمسؤولية.