الأربعاء، 16 إبريل 2025

℃ 24
الرئيسية > أعمدة واراء > أوفيليا الموسيقى

أوفيليا الموسيقى

نشر في: 11 نوفمبر, 2012: 08:00 م

أنت تعرف كلَّ بيتهوفن. تعرف معظم مفسريه من قواد الأوركسترا، عازفيه ومغنيه. ولكن ما من شهر يمر دون رغبة جديدة تنازع هذا المفسر، هذا العازف أو ذاك المغني، في الاجتهاد. وأنت تقرأ النقاد يشيدون باجتهاد هؤلاء فتتمنّع في البدء. ثم تفقد المقاومة بعد حين. أمرٌ يشبه قدراً لا مفر منه. ولكن دون رغبة في الفرار بالتأكيد. ثم أن هذه الموسيقى إذْ تُطربك تغذّي مخيلتك أيضاً، فتجد نفسك في حضرة الشعر. وهي تدفعك للتأمل، فتجد نفسك في حضرة الفلسفة. وإذ تُغمض الجفن لتتصور تتراءى لك اللوحةُ التشكيلية... وإذا الموسيقى مصدر معارف روحية، عقلية وبصرية، تحيطها بالرعاية ومزيدٍ من الغِنى. فكيف تنازعك نفسك، وأنت في محيط الغِنى، بالعودة الى الشاطئ، وتسميه شاطئ أمان؟

كان على أوفيليا، في "هاملت" شَكسبير، أن تغني على المسرح، في ساعة جنونها قبل الانتحار:

إنه ميّتٌ وراحلٌ، سيدتي

ميّتٌ وراحل.

مرجٌ من العشبِ أخضر عند رأسه،

وصخرة عند عقبِه.

أنظري، أتضرّعُ إليكِ،

وشاحُه أبيض كثلج القمم، ...

    في تسجيل على الأسطوانة السوداء صدر في 1984، تغني السوبرانو الاسترالية الكبيرة جون سوثرلاند دور أوفيليا في أوبرا "هاملت" التي وضعها الموسيقي الفرنسي أمبروا توماس (1811-1896). الموسيقي يكتفي بمشهد جنون أوفيليا، ويُدخلها، على خلاف المشهد الشَكسبيري، في حقل الفلاحين وهي تُنشد:

دعني أقتسم وإياك الأزهار!

.....

حسناء وشاحبة

تنام تحت المياه العميقة, ...

    تجنّب الموسيقيُّ نص شَكسبير الشعري لأن فيه صوراً تستدعي معرفة بمصادرها المحلية الانكليزية (العشب عند الرأس، والحجر عند القدم!). والأوبرا تميل الى المباشرة ولا تحتمل الهوامش التفسيرية. لحن الأغنية يمتدّ قرابة دقائق عشرة، يختلف فتنةً عن فتنة الشعر الشَكسبيري، وعن فتنة التشكيل في لوحة جون ملاييس (29-1896)، أحد رواد مرحلة ما قبل الروفائلية التي عرفت في انكلترا.

    ثم شرعتُ أستعيد وجوها أخرى من الافتتان الموسيقي. لأن هاملت كان مصدر إلهام لأكثر من موسيقي: أستعيد فرانتس لِست  في "قصيدة سيمفونية" (1858) وضعها كافتتاحية لمسرحية هاملت. ثم أكرر سماع "فانتازي" (1888) للروسي تشايكوفسكي المستوحاة من حيرة هاملت الروحية، وموسيقى تصويرية للطليعي الروسي شوستاكوفتش، وضعها للفيلم الروسي الشهير (النص الشعري لباسترناك، والإخراج لغريغوريكوزينتسيف)، الذي رأيناه في الستينيات. ثم أكتشف أن هناك أوبرا باسم "أمليتو" (هاملت في الإيطالية) وضعها الايطالي فاتشيو (1865)، معاصر توماس. وأوبرا أخرى وضعها معاصرنا هامفريسيرل (15-1982). والأخيرتان لا عهد لي بهما. ولكن لي عهداً وطيداً مع ثلاث أغنيات رائعة وضعها الألماني الأشهر ريتشارد شتراوس (1864-1949). ولهذه الأغنيات حكاية ترتبط بأزمة العلاقة بين الموسيقيين والناشرين.

كان لناشر الموسيقى آنذاك، كما لناشر الكتب العربي في أيامنا هذه، حق الاستحواذ على حقوق النشر كاملة. ولأن شتراوس بلغ شهرة ألمانية وعالمية عالية سعى لتشكيل نقابة للموسيقيين تحفظ لهم حقوقهم. ولكنه حينها كان قد تعهد لناشره بملكية ما سيؤلفه من لحن تال. فاضطر لوضع ثلاث أغنيات مما غنته أوفيليا في مسرحية هاملت في ساعات جنونها الأخيرة. متوهماً بأنها ستكون بمثابة جرعة سامة للذائقة الفنية، تنكيلاً بتوقعات الناشر. ولكن لحظات الجنون العذب جعلت هذه الأغنيات، في حنجرة وأداء مغنية مقتدرة، غاية في التأثير.

    بين يدي إصدار جديد، وأغنيات أوفيليا الثلاث في آخره: في الأولى تخاطب الملكةَ، غائمة النظرة، مفرغة العقل: "كيف لي أن أميّز حبي الحقيقي عن أي حب آخر؟..". ثم في الثانية بمواجهة كلوديوس الملك، وبأداء مجنون لا يخلو من حسية لا تليق برقة أوفيليا: " أُسعدت صباحاً، هذا يوم فالَنتاين،/ مازال الوقت مبكراً قبل إشراق الشمس./ سأكون، أنا العذراء الصغيرة عند النافذة، فتاتَك لهذا اليوم..". ثم في الأغنية الثالثة يصل أخوها ليرتس، فيصبح أساها أكثر حضوراً. نشعر هذا من تدفق في أداء البيانو، يوحي بالغرق الوشيك: " لقد حملوه عارياً في النعش،/ يا للحسرة، ذلك العزيز!/ فكم من دمعة سقطت في القبر/ وداعاً، وداعاً يا حمامتي!..".

    بعد كل هذا، هل سأخلو من مفاجآت قادمة لجنون أوفيليا؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

سيكولوجية تجنيد العقول في الجماعات الارهابية الدينية

قناطر: العالم يتوحش .. المخالبُ في لحمنا

العمود الثامن: قوات سحل الشعب

"الحشد الشعبي"... شرعنة التشكيل بوظائف جديدة

كلاكيت: "ندم" وعودة الفيلم الجماهيري

العمود الثامن: قائمة المنتفعين

 علي حسين في بلاد الرافدين حزب من المنتفعين يضم عدداً من السياسيين والمسؤولين الكبار ممن إذا أصابت الناس مصيبة لاذوا بالصمت الذي هو في عرفهم أبغض الحلال. ومن المفارقات العجيبة في العراق -بلد...
علي حسين

باليت المدى: كرسي مكسور الساق

 ستار كاووش عندَ لقائي ببعض الناس أفاجئ ببعض التفاصيل الصغيرة التي تُشير الى نوع من الكسل واللامبالاة وعدم إيجاد الحلول حتى وأن كانت صغيرة. فرغم إنغماس أحدهم بتعديلِ صُوَرِهِ ببرامج الفوتو شوب كي...
ستار كاووش

(50 ) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياة بين فذيفتين

زهير الجزائري (1) يوم ١٣ نيسان ١٩٧٥ بدأت الحرب من مجزرةً (عين الرمانة). كنّا في طريقنا إلى الجنوب اللبناني حين انقطع بثّ الراديو بين إعلان عن مسحوق الغسيل المفضل لدى النساء العصريات و سيكارة...
زهير الجزائري

التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين: تحديات القرن الواحد والعشرين

محمد علي الحيدري التنافس بين الولايات المتحدة والصين أصبح في السنوات الأخيرة أحد أبرز القضايا التي تحدد ملامح السياسة العالمية، حيث يشتد في المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية بشكل يثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram