كيف حدثت المعجزة البشرية التي أنتجت اللغة؟ وسواء أكانت ناتجة عن تطور في حجم وتركيبة المخ، أم نضوج في عملية الإدراك، أم مزيج بينهما، فقد أحدثت الانعطافة الأهم بمصير البشر. وهي انعطافة تختزن في داخلها رحلة طويلة ومعقدة من رحلات الابداع في تاريخ هذا الكائن الخطير. الموضوع لا يقتصر على خلق المفاهيم عبر تجريد صور المحسوسات، إذ يبدو على هذه العملية أنها موجودة لدى أغلب الحيوانات. لكن الإنسان تميَّز عن بقية الكائنات الحية عندما خلق اللغة، واستطاع بوساطتها أن يخلق معادلات لفظية لمفاهيمه المجردة، وهكذا فتح باب الثقافة على مصراعيه، وتحول إلى كائن ذي تاريخ معرفي تراكمي.
اللغة أداة اتصال مرنة بشكل فذ، ومن خلالها تمكن البشر الأوائل من نقل رسائل الاتصال لتبادل تجاربهم الحياتية، فأسسوا بذلك عملية التراكم المعرفي، وهكذا لم يعد من الضروري أن تبدأ الجماعات خبراتها من نقطة الصفر، بل من حيث انتهت الجماعات السابقة. ثم جاءت مرحلة الكتابة، وهذه نقلة لا تقل خطورة عن الأولى، فبعد أن كان الاتصال لا يحدث إلا بين فردين متقابلين أو بين فرد وجماعة متقابلين في أحسن الأحوال، تمكن هذا الكائن من خلال الكتابة من تخطي عائقي الزمان والمكان، فأي معجزة كان قد خلق؟! صار بإمكانه أن يُرسل رسائله الاتصالية عبر المسافات البعيدة، وعبر السنوات الطويلة، ومن هنا استطعنا أن نقرأ رسائل اتصالية كان قد ارسلها السومريون قبل آلاف السنين.
ما يهمني في هذا الموضوع هو تأثير الطفرات التي حققها هذا الكائن الساحر عليه هو، فبين البشر "المتكلمين" وبين من سبقهم من بني جنسهم حدثت طفرة ثقافية/ اجتماعية هائلة، وبين من كتبوا افكارهم وبين من لم يفعلوا أيضاً ثمة طفرة، وهكذا. لكن الساحر في طفرة اللغة، أنها أوقفت التطور أو النمو، البيولوجي، في المخ، وفتحت الباب أمام التطور الثقافي، وبعد أن تم ابتكار اللغة لم يعد هناك داع لأن يزداد حجم الدماغ ـ كما يؤكد علماء ـ. فهل كان التطور البيولوجي مرصوداً لغرض الوصول إلى حجم وشكل المخ "منتج اللغة"، أم أن اللغة قاطعت عملية نموا كانت لتكون مستمرة ودائمة، لولاها؟
بعبارة أخرى هل كان يمكن أن يستمر تطور المخ في حال لم نبتكر اللغة، فيطور قدرات أخرى؟ أم لا؟ كأن نلجأ إلى التخاطر، أو إلى صيغة أخرى للاتصال، أو أن نلجأ إلى عملية أخرى لا علاقة لها بموضوع الاتصال نهائياً، كما لو تنتقل المعرفة جسدياً عبر الجينات الوراثية، وبدل أن تحتفظ هذه الجينات بخريطة الصفات فقط، تحمل لنا بالإضافة لذلك خريطة المفاهيم والقوانين وبقية مفردات الثقافة. ثم ومن جهة أخرى إلى أي درجة ستؤثر الثورة التي احدثتها تكنولوجيا المعلومات، على الآليات التي نستخدمها في عمليات الوعي والإدراك؟ وهل نحن بصدد مقاطعة عملية نمو ثقافية، لنبدأ بأخرى مختلفة، خاصَّة ونحن نفكر عبر هذه التكنولوجيا ومن خلالها وداخل فضائها الافتراضي أغلب الأحيان.
الجيل الثالث
[post-views]
نشر في: 11 نوفمبر, 2012: 08:00 م