أختلف قليلاً وأقول، نعم كان لا بدّ من إلغاء البطاقة التموينية منذ زمنٍ بعيد. فقد ارتبطت البطاقة التموينية منذ نشأتها قبل ما يقرب من اثنين وعشرين عاماً بهدف إذلال المواطن من خلال دفع الآلاف من العراقيين للاصطفاف في طوابير مرهقة ومضجرة، وأحياناً تقسيمهم إلى مجاميع بحسب فئات مهنية (موظفين، أساتذة جامعة، عسكريين، الخ) للحصول على القليل مما لا يغني من فقر ولا يشبع من جوع. كما كانت البطاقة التموينية الشاهد على عجز النظام السابق في مواجهة آثار الحصار الاقتصادي الذي دعاه دعوة فكان أنْ شرعت البطاقة التموينية لتستخدم بطريقة (الجزرة والعصا). يتذكر عراقيو ما قبل عام 2003، كيف أنّ البطاقة التموينية استخدمت أداةً لتهديد أبناء الفقراء من مغبة التهرب من الخدمة العسكرية الإجبارية التي لم تكن بنظرهم إلا شكلاً من أشكال الحبس الجماعي. فلا الراتب يكفي ولا فترة الخدمة تتحدد على نحوٍ واضح ليستطيعوا ترتيب أوضاعهم بشأن انعتاقٍ محتمل. كما استخدمت البطاقة التموينية وسيلة ضغط على آلاف الشباب والشابات لأغراض سياسية ،الأمر الذي كان غالباً ما يحصل على أساس الظنّة والتخمين بكل ما ينطوي عليه هذا من تحيزات أدبية وعاطفية، على طريقة (حِب واحجي وأكره واحجي). بل استخدمت البطاقة التموينية كوثيقة من وثائق الضبط الأمني فكان أنْ حُرم آلاف الأطفال والأبناء من مختلف الأعمار من حصصهم كجزء من محاولة جلب والدهم أو ولي أمرهم إلى أروقة الحزب الحاكم وغرفه المغلقة ليتلقوا عظيم العقاب جراء رأي أو فكرة أو حتى ‘دردمة’، بأمل التغيير والخلاص من حكم الطاغية. وعزز النظام من شأن البطاقة التموينية بأنْ جعلها إحدى الوثائق الأربعة المهمة (إلى جانب هوية الأحوال المدنية، شهادة الجنسية وبطاقة السكن) التي لا بدّ من إبرازها عند المراجعة لأي معاملة حكومية مهما كانت روتينية وبسيطة. هذه صورة موجزة لتاريخ البطاقة التموينية ،فما الذي يبكينا عليها؟! لقد استخدمت البطاقة التموينية سلاحاً لشيّ ظهور المواطنين وحرق أحلامهم.
اليوم، لا يخفى على أحد أنّ البطاقة التموينية صارت وكراً للفساد الإداري وطريقة لسرقة المال العام. أضف إلى ذلك، أنّ القائمين على البطاقة التموينية لم يطوروا عبر ما يزيد على العقدين من عمرها المستلزمات المادية التحتية اللازمة لدعمها كما هو الحال في المخازن والسايلوات المصممة لتسلمها والمحافظة على المواد المخصصة من التلف كالرز والطحين والسكر والشاي والزيوت وما إليها، مما تسبب بتلف كميات هائلة منها عبر السنوات كان يمكن أنْ تساهم ليس فقط بإطعام العراقيين وإنّما بمعالجة المجاعات في عدد من بلدان العالم ومنها البلدان الإفريقية الأكثر تضرراً.
لهذا وذاك، أقول نعم لقرار إلغاء البطاقة التموينية لمحو كل ما ارتبط بها من مساوئ مادية وأخرى غير مادية ومنها النفسية والاجتماعية التي ما زالت تقضّ المضاجع وتهيّج الأوجاع. ولكنْ قبل أنْ نفكر بالإلغاء هل فكرنا بالبديل وبخاصة ما يتعلق منه بمعالجة شؤون المواطنين المتضررين من الفقراء والمعوزين وذوي الدخل المحدود رجالاً ونساءً؟ المعروف أنْ لا أسهل من الهدم ولكنّ البناء هو الصعب والمطلوب. واسمحوا لي أنْ أقول بصراحة إنّ قرار استبدال البطاقة التموينية بمبلغ (15) ألف دينار عراقي لم يكن بالقرار الرشيد، قطعاً. فهو قرار لا يعبر عن التحسس بهموم المواطنين ومنهم الشرائح الفقيرة والمعوزة المشار إليها أعلاه والتي تشكل نسبةً لا يستهان بها من الحجم الكلي للسكان في العراق. بل إنّ هذا المبلغ المتواضع كبديل مباشر لإلغاء البطاقة التموينية سيذهب من جديد إلى جيوب كثرة من المواطنين الذين تحسنت أوضاعهم الاقتصادية حقاً ولم يعودوا يبالون بما يأتيهم من خلال البطاقة. وهذه هي الأزمة الحقيقية في البطاقة التموينية. لعل أولى المقترحات العملية اللازمة في هذا المجال أنْ تتحرك الأجهزة التنفيذية المعنية بالأمر إلى طرح السؤال عمن وأين يسكن الفقراء والمعوزون والمحتاجون ، ليصار ليس فقط إلى تعويضهم بهذه المبالغ الضئيلة وإنّما لضغط هذه المبالغ كي تكون أكبر وتعطى لمستحقيها وفق مبدأ العمل على توفير شروط الحياة الاجتماعية الكريمة لكل المواطنين. ويأتي في هذا المجال أنْ تقوم الأجهزة الحكومية المعنية باستنفار إمكاناتها البشرية ومنها جيش المشتغلين في مجال الخدمات الاجتماعية ليقوموا بمسح حول هذه الشرائح ومحاولة تقدير حاجاتها من خلال اعتماد معايير علمية مناسبة تحسم أمر أنْ يعتبر المواطن فقيراً ومعوزاً أم لا. ويصار بعد ذلك إلى وضع آليات لتوجيه أموال الإعانة المخصصة في هذا المجال إلى مستحقيها الفعليين ومن خلال المصارف المتخصصة على نحوٍ يشبه طريقة توزيع الرواتب التقاعدية في البلاد.
ولعل السؤال التالي المهم هو الذي يتعلق بالمعايير اللازمة لـ"تشخيص" الفقراء والمعوزين. ففي ظل الأوضاع المتغيرة والفرص المتاحة، وإن كان بطريقة عشوائية، في الغالب، لا بدّ من إعادة النظر بكثير من الصيغ التقييمية السابقة. فليس من الجائز، مثلاً، أنْ يعتبر كل الأرامل واليتامى والسجناء السابقين والمهجرين بل وحتى عوائل الشهداء، معوزين، بالضرورة. إذ لا بدّ من النظر إلى الإمكانات الكلية لكل هؤلاء في ضوء مؤشرات محددة قابلة للقياس الكمي كما هو الحال في حجم العائلة وأعمار أعضائها وملكية الدار أو الأرض ومدى تمتعهم برواتب الإعانة أو الرعاية الاجتماعية ليس لحرمانهم كليةً وإنّما لوضع تصور علمي دقيق عن مستويات الفقر والحاجة تستلزم حجماً مكافئاً من المساعدات المالية المحددة. فالعائلة كبيرة الحجم تختلف عن العائلة صغيرة الحجم. وكذلك الحال فيما يمكن أنْ يسمى عمر العائلة، فالعائلة الشابة التي تتحمل مسؤولية عدد من صغار السن مما يبدأ من الطفولة حتى نهاية فترة الدراسة الجامعية تختلف عن العائلة التي تخرج أبناؤها من الدراسة أو توقفوا عنها وتزوجوا وتحملوا مسؤولياتهم على نحوٍ مستقل. كما لا يمكن اعتبار النساء، كل النساء من طبقة المعوزات في الوقت الذي يكافح فيه كثير من الرجال الكسبة يومياً لتأمين لقمة العيش لهم ولعوائلهم في ظلّ ظروف عمل أقل ما يقال فيها أنّها مربكة ومتغيرة وذلك بسبب العطل والإجازات غير الرسمية المتاحة للموظفين وأشباههم قبل وبعد كل عطلة.
ما أنْ يتم الانتهاء من قضية المعايير والمؤشرات المحددة والواضحة، فإنّ على الأجهزة المعنية بشأن تأمين البيانات اللازمة أنْ تواصل العمل على نحوٍ روتيني من خلال الجولات الميدانية المستمرة للتحقق من صحة البيانات أو تعديلها وتحديثها لكي تكون أكثر مطابقة للواقع بما يؤدي إلى دعم الهدف الجوهري والأساسي للدولة بتحمل مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية تجاه مواطنيها وجمهور ناخبيها. لقد آن الأوان للدولة أنْ تدفع بمشتغليها ليغادروا مقاعدهم وينزلوا إلى أرض الواقع ويأخذوا البيانات الواقعية من مصادرها الحقيقية المباشرة لنصرة المحتاجين والمتضررين فعلاً.
*كلية الآداب، جامعة بغداد
نعـــــم لإلغــــاء البطاقـــــــة التمــــوينية ولكــنْ!
[post-views]
نشر في: 12 نوفمبر, 2012: 08:00 م