TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > طراقة مُراهِقة

طراقة مُراهِقة

نشر في: 12 نوفمبر, 2012: 08:00 م

أنا مسحور بالكائن البشري، لذلك أحب الكتابة عن فتنته، مع أنني اضطر في بعض الأحيان لصبّ لعناتي عليه، بسبب كرهي لجرائمه وشروره وخياناته وفساده.. كنت قبل أشهر أكتب بحثاً في انثروبولوجيا الاتصال البشري، كيف يحدث، ما هي مستوياته وكيف تعدد آلياته، كان بحثاً مختصراً وبجهود بسيطة، ويعتمد على أداة الملاحظة الأولية.

لم اخرج بأشياء جديدة، لكنَّ سحراً تملكني وأنا أتابع كيف تجري عمليات الاتصال بيننا نحن بني البشر، كيف نرسل الرسائل حتى دون أن نعلم أو نقصد في بعض الأحيان، وهنا اكتشفت فتنةً ليس كمثلها فتنة.. فليس كل الرسائل التي نبعث بها للمحيطين بنا مقصودة أو مباشرة، وكما يحدث مثلاً عندما تَخْجَلُ المراهقة، حيث تنهال الكثير من الرسائل، من على خديها ومن نظرات عينيها وحتى من طريقة مشيها وكيف تطرق بوجهها، هذه كلها إشارات نفهمها جميعاً، وكانت لتتمنى أي مراهقة لو تبتلعها الأرض ولا يشعر الآخرون بضيمها.. لكن كما قلت؛ بعض عمليات الاتصال تجري رغماً عنّا.

الكائن الفتّان لم يترك أي مفردة من مفردات حياته إلا وسخرها لتحقيق غايات اتصالية، حتى ملابسه، كيَّفها لتكون أدوات تواصل مهمة لا مجرد أغراض تحميه من ظروف المناخ، إذ الملابس التي نرتديها تكشف عن مكانتنا الاجتماعية أو عملنا والثقافة التي ننتمي إليها. هناك من يرتدي ملابس ليقول من خلالها بأنه فنَّان، أو متمرد، أو خلوق ومتدين، أو فاحش الثراء أو مُعْدَم، وهكذا.. الملابس الدينية تتضمن قائمة بالآداب الواجب إتباعها مع لابسها، لذلك تجد نفسك مدفوعاً لاختيار مفردة (أبونا) وأنت تخاطب رجلاً لا تعرفه، لكنه يرتدي ملابس قس. أنت تفعل ذلك بتلقائية ودون أن تشعر برسالة الزي. طيب هل هناك فرق بين العمائم التي يرتديها رجال الدين؟ حسنٌ؛ طريقة لف العمامة ولونها تخبرك عن الدين والمذهب، إذ العمامة السوداء، عند المسلمون، تشير للانحدار من نسب النبي.

كنت أتمنى أن يستوعب العمود اليومي كمّاً أكثر من الهذيان، إذن لتذكرت الرسائل الاتصالية التي ترسلها الهرمونات، رغماً عنا، أو تلك التي ترسلها انفعالات الجسد، أو تلك المتضمنة بالمباني التي نبنيها، فالرسائل التي تتضمنها طريقة بناء المسجد تختلف عن تلك التي ترسلها طريقة بناء الكنيسة.. ألم أقل لكم أننا كائنات فتّانة. راقبوا من حولكم كيف يتصرف أي فرد جالس لوحده ويعتقد بأن لا أحد يراقبه، وستستمتعون بأحلى الإشارات وأغربها، أقصد تلك التي تخبركم عن حالته النفسية أو الجسدية أو حتى الاجتماعية. سيقول لكم إن كان قلقاً أو حزيناً أو مقبلاً على ارتكاب فعل شائن، أو غارق في تأملات بعيدة.

نحن حقاً كائنات فتّانة وساحرة، ولا يُفقد سحرنا أهميته غير استغلالنا موارده في ارتكاب أكثر الأشياء دموية وشراً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. جمعة جهاد

    اخ سعدون انت تذكينا بباقات رائعة من اعمدة الوردسيما ونحن مشغولون بتكالف الحياة الصعبة فمرحى لك(هذه رسالة هرمونية غارقة في تأملات شخصيتك الاممية

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram