كتبت في عام 1982 في صحيفة "رصيف 81" التي كنا نصدرها يومية في بيروت لتغطية أحداث الاجتياح الإسرائيلي للبنان ، وكان حينها وزيرالدفاع الإسرائيلي آريل شارون ، الذي كان يلقب بين الصقور بـ "البلدوزر" ،وكانت تلك الأيام سوداء حقيقية علينا ، كتبت عمودا بعنوان " فضيلة شارون الوحيدة !" قلت فيه إن شارون وفرعلينا جهد تربية جيل جديد حاقد على الحرب والصهاينة لأن أطفال تلك الحقبة كانوا يرون ويسمعون ويعانون من آثار همجية البلدوزر ووحشية جيشه .. وحكومتنا بقرار إلغاء البطاقة التموينية ، أو "تعويضها " تخفيفا لصدمة القرار ، قد وفرت على قطاعات واسعة من الشعب العراقي جهد اكتشاف الحقائق التالية:
أولاً : إن حكومتنا الجليلة تعمل بنظام تخبط عالمي تحسد عليه لأن قراراتها التي تهم ملايين العراقيين تتم دون دراسة وبحث ، وإنها نائمة في نفس الوقت الذي يضع مجهول جدول أعمالها الذي تبرأ منه الجميع بمن في ذلك الموقعون على طلب إلغاء البطاقة أو تعويضها تحببا ، وبذلك تضع حكومتنا الدليل القاطع على أن كل ما يعانيه المواطن اقتصاديا وسياسيا وخدميا هو بسبب حكومة بلا برنامج ولا أهداف ولا سياسات مستقبلية ،والنتيجة هي ما نحن عليه من مصائب وكوارث !
ثانيا : إعادتها الأمل لدينا من أن بإمكان الاحتجاجات الجماهيرية العفوية ووسائل الإعلام الوطنية الحقيقية أن تشكل جبهة ضغط حقيقية على "خربطات" الحكومة وإجبارها على التراجع عن قرارات عشوائية تمس مصالح الناس ولقمة عيشهم دون أن تنتظر من يأخذ بيدها ليدلها على الطريق السليم .وبذلك تجاوزت هذه الجماهير التنظيرات الفارغة والخطابات الرنانة التي لا لون ولا طعم ولا رائحة لها !
ثالثا :أكدت لدينا قرارات الحكومة الوجود القوي لجوقة من الطبالين ،السياسيين والإعلاميين، الذين دافعوا عن قرار إلغاء البطاقة التموينية بكل ما يملكون من قوة التضليل والكذب وخداع الجماهير وتسويق قرارات الحكومة الخاطئة باعتبارها قرارات إنقاذ البلاد والعباد من الفساد المالي ،وهي بالتالي جاءت منسجمة مع "مصالح " الناس بل ومتطابقة ، ونفس هذه الجوقة هللت لقرار "العودة" باعتباره انتصارا للديمقراطية !
رابعا : اكتشفنا مع المواطنين هزالة "قوة" التيار الديمقراطي في البلاد والقوى التي كان من المفترض أن تتبنى مطالب الجماهير منذ اللحظة الأولى لقرار الإلغاء السيئ الصيت ، بما فيها قوى المجتمع المدني التي بقيت في معظمها تتفرج على ردود أفعال الناس العفوية وعلى الدور الذي قامت به وسائل الإعلام الوطنية في التصدي لقرار الحكومة ، واكتفت تلك القوى ،للأسف الشديد ، ببيانات الاستنكار التي لم تحرك مواطنا من مكانه .. وتلك القوى تحتاج وبقوة إلى نفض الغبار عن سكونها المريب وأن تعيد النظر في طريقة وأسلوب عملها وفي مصداقيتها في تبني قضايا الجماهير .. لقد كانت هذه فرصة سانحة لقيادة احتجاجات الجماهير ومطلبيتها التي توحد الناس بغض النظر عن الجنس والطائفة والدين ، لكنها فرصة تسربت وضاعت ، واستطاعت الجماهير بدعم الإعلام الوطني أن تنتزع حقها انتزاعا من سماسرة السياسة .