TOP

جريدة المدى > سياسية > ديوان الرقابة المالية والسلطة القضائية تحت قيد الحكومة

ديوان الرقابة المالية والسلطة القضائية تحت قيد الحكومة

نشر في: 16 نوفمبر, 2012: 08:00 م

كان الفساد موجودا في ظل نظام صدام، فمثلا خلال فترة العقوبات الدولية كانت الحكومة تتلاعب ببرنامج النفط مقابل الغذاء وكانت تهرّب البترول لكسب المزيد من النقد فأفاد المقربون من صدام والقيادات العليا من ذلك. بعد الاجتياح الأميركي للبلاد عام 2003 استمر الفساد وتوسع مع تدفق مليارات الدولارات الخاصة بإعادة الإعمار بالإضافة إلى أرباح النفط مع ضعف الرقابة والإدارة، مما أتاح فرص إساءة استخدامها من قبل النخبة الحاكمة حيث تقاسموا ثروة البلاد وخلقوا مؤسسات فساد عن طريق التلاعب بالعقود الحكومية من اجل إغناء أحزابهم. لقد شهد ديوان الرقابة المالية كل ذلك وهو أقدم هيئة لمحاربة الفساد في البلاد. كانت هذه الهيئة هزيلة في عهد صدام، ثم أصبحت معوّقة في ظل الأميركان من خلال مجموعة من التعليمات البيروقراطية الجديدة والمعقدة. اليوم يعاني الديوان من الصراع الداخلي مع هيئات محاربة الفساد الأخرى ومن محاولات رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي في السيطرة عليه مما تسبب في تحديد فاعليته ونشاطاته.

تأسس ديوان الرقابة المالية منذ أكثر من ثمانية عقود، حيث أسسه البريطانيون عام 1927 لتدقيق حسابات الحكومة. في عام 1980 تم منحه صلاحيات إضافية للنظر في السياسة المالية والاقتصادية للحكومة. مع هذا فلم تكن للديوان أية صلاحيات حقيقية في عهد صدام لأنه كان يتعامل فقط مع الفساد الذي يهدد النظام والحزب. عندما تأسست سلطة الائتلاف المؤقتة في نيسان 2003، قامت بإلغاء ديوان الرقابة المالية وقتيا كجزء من التخلص من مؤسسات البعث. ذهب رئيس الديوان د. غانم الغازي إلى سلطة الائتلاف ليوضح مهامه لهم ونجح في إعادة عمل الديوان في أيلول بموجب الأمر 57، لكنه تم استبداله برئيس جديد هو عبدالباسط تركي. كان الديوان حينها يعاني من نقص الكادر والتجهيزات؛ فمن بين 1200 موظف كان هناك 100-150 مدققا فقط ولم يكن فيه اكثر من خمسة أجهزة حاسوب. لم تقدم الولايات المتحدة الكثير من الدعم عدا القليل من التدريب. ورغم أن للديوان تاريخاً طويلاً قبل وبعد سقوط صدام فانه لم يكن فاعلا جدا، حيث قلع حزب البعث أسنانه ولم يكن لديه الوقت للتعافي بعد ان حلت الولايات المتحدة حزب البعث ثم اعادت الديوان للعمل. كانت واجباته الرقابية مطلوبة بعد 2003 بسبب تدفق أموال طائلة إلى البلاد.  في نيسان 2004 حاولت سلطة الائتلاف دمج ديوان الرقابة المالية في اطار جديد لمحاربة الفساد، الا ان الأمر انتهى بتعقيد عمله بدلا من تسهيله. حيث حاولت سلطة الائتلاف جعل الديوان تابعا للمفتشين العامين الذين أسستهم الولايات المتحدة داخل الوزارات والى هيئة النزاهة، عن طريق تجريده من صلاحياته في إرسال القضايا مباشرة الى المحاكم، اذ اصبحت القضايا تمر على المفتشين العامين وهيئة النزاهة بدلا من مرورها على الديوان. استاء الديوان كثيرا من الهيئات والتعليمات الجديدة التي أسسها الاميركان وشعر بأنه –كأقدم هيئة لمحاربة الفساد في البلاد– يجب ان يتساوى او ان يكون فوق المفتشين العامين وهيئة النزاهة. نتيجة لكبريائه المجروح، فأنه لم يتعاون في اغلب الحالات مع تلك الهيئات أو أن يشاركها المعلومات مما أعاق التحقيقات في جرائم السرقة والابتزاز.
في الوقت نفسه كان للديوان تأثير محدود على موجة الفساد التي طغت بعد سقوط النظام عام 2003. فمثلا لم يثمر التحقيق في اكبر القضايا آنذاك، والخاصة بوزارة الدفاع في ظل الحكومة المؤقتة برئاسة اياد علاوي، عن شيء يذكر. اكتشف الديوان ان الوزارة أضاعت 1.27 مليار دولار على مشتريات عسكرية بسبب الرشاوى والوسطاء وتجهيزات عديمة الفائدة. حدث ذلك خلال الاشهر الثمانية الاولى بعد ان استرد العراق سيادته في حزيران 2004. ادعت الوزارة انها اشترت تجهيزات من بولندا والولايات المتحدة واوربا ودول عربية بينما في الحقيقة انها منحت عقودا لشركات عراقية وهمية ودفعت لها المال مقدما. بعض تلك الشركات اشترت التجهيزات فعلا إلا أن اغلبها لم يكن قابلا للاستخدام مثل ناقلات أشخاص مدرعة فيها الكثير من العيوب. حالة أخرى تضمنت شراء 64 مروحية هجومية نوع ام آي-18 من بولندا وروسيا، تبين ان أربعا منها قد صنعت قبل 25 عاما. وسطاء آخرون هربوا بالمال الذي تسلموه ولم يعرف عنهم شيئا. إحدى الشركات كان يملك جزءا منها صهر وزير الدفاع حازم شعلان والذي كان يعمل مستشارا لأحد نواب رئيس الجمهورية. نتيجة التحقيق كان قد طرد تسعة مسؤولين فقط أو تم منحهم إجازات من العمل. بعدها غادر حازم شعلان البلاد في 2005 ولم تجر معاقبة احد فعلياً.
لقد خرج هؤلاء العراقيون من عقود من الدكتاتورية، وأول ما قرروا فعله هو الهرب بمليار دولار من المال العام.
 تمكن ديوان الرقابة المالية من كشف هذه السرقة الضخمة لكن بسبب غياب الدعم المحلي فقد ذهبت القضية أدراج الرياح. هذه القضية بينت للمسؤولين العراقيين الجدد ان بإمكانهم فعل أي شيء يريدونه دون عواقب أو تداعيات.
كذلك لعب العنف دورا في تحديد تأثير الديوان. فما بين 2005 – 2008 تعرض العديد من موظفي الديوان إلى القتل وكانوا هدفا للاغتيالات، كما أن احد المسؤولين ألقيت في سيارته رمانة يدوية بعد خروجه من احدى الوزارات. كما ان مقر الديوان اغلق بسبب القناصين والمعارك التي كانت تدور في الشارع خارج المقر، وعلى مدى اسابيع لم يتمكن الموظفون من الذهاب الى مكاتبهم نتيجة لذلك.
لم تكن الحكومة العراقية الجديدة تدعم الديوان في أداء مهامه، بل على العكس كانت السلطات تحاول تحديد تحقيقاته، وتلاحق استقلاليته وتتدخل في قضاياه. في 2007 اخبر رئيس الوزراء نوري المالكي الاميركان بأنه لا يؤيد الهيئات التي تحقق بالفساد وهذا ينطبق على اثنتين أخريين من هيئات محاربة الفساد. وبسبب تفشي المحسوبية والمحاباة والرشوة والسرقة داخل حكومة بغداد، فإن المالكي لم يكن يريد أن يقوم احد ما بتفتيش سجلات الحكومة ويسبب لها المشاكل، لذلك عمل ما بوسعه لعرقلة عمل الديوان. كما انه حاول التلاعب بالديوان لصالح أهدافه السياسية. في 2012 وجهت اتهامات ضد رئيس مفوضية الانتخابات فرج الحيدري لإعطائه مبلغ 130 دولاراً لأعضاء هيئة ملكية الدولة مقابل الحصول على ارض حكومية. يعتقد مسؤول في الديوان ان المالكي يستخدم القضية للسيطرة على هذه المفوضية المستقلة، ويدعي بأن المالكي قد غضب على مفوضية الانتخابات بعد ان جاء ائتلافه – دولة القانون – ثانيا في انتخابات 2010. لم يكن هذا المسؤول هو الوحيد الذي يحمل تلك الشكوك، حيث ان القضية أسقطت في ما بعد وثبتت براءة الحيدري. تبدو الاتهامات وحجم الأموال المشمولة بالقضية صغيرة، لكن في الحقيقة أنها كانت تستهدف رئيس مفوضية الانتخابات قبل عام من انتخابات مجالس المحافظات. في الواقع إن رئيس الوزراء حاول زيادة عدد أعضاء المفوضية مما يشير الى ان المالكي يستخدم كل ما يستطيع من وسائل للفوز بالانتخابات القادمة. صار ديوان الرقابة المالية ببساطة مرهوناً في هذه اللعبة.
في السنوات العشرين الأخيرة كان للديوان تاريخ عسير، ففي سنوات التسعينات خسر الكثير من صلاحياته بعد ان جعل صدام السلطة بيديه وبيد عائلته وبأيدي القياديين في حزب البعث. وبعد ان جاء الاميركان فأنهم لم يقدموا له المساعدة، من خلال وضع ترتيبات جديدة حددت من قدراته. نتيجة لذلك لم يتمكن الديوان من تنفيذ مهامه بعد ان توسع الفساد ووصل الى مستويات عالية جديدة بعد سقوط النظام السابق. اليوم يتحدد عمل الديوان حسب الموقف السياسي. انه يستطيع اكتشاف العديد من قضايا الفساد كما يشاء، لكن لن يحصل شيء بشأنها الا اذا كان المتورطون فيها من المستويات الدنيا او اذا أراد كبار المسؤولين حصول شيء ما.  ذلك ينطبق على بقية هيئات محاربة الفساد. لهذا السبب يأتي العراق دائما ضمن أكثر البلدان فسادا في العالم على مدى السنوات الماضية، لعدم وجود رقابة حقيقية وتوازنات داخل الحكومة.

السلطة القضائية في العراق
نظريا، من المفترض ان تكون السلطة القضائية مستقلة وتقوم بمراقبة عمل الحكومة. عندما يتعلق الأمر بالفساد، فغالبا ما تفشل المحاكم في حسم القضايا الخطيرة التي يتورط فيها كبار المسؤولين، فإما يتم إسقاطها او ينال المدان فيها أحكاماً خفيفة. فإذا أرسل شخص مهم للمحاكمة فمعنى ذلك إن هناك شخصا أكثر منه قوة يستخدم الترهيب ضد النظام القضائي. خلال السنتين الماضيتين أصبح رئيس المحكمة العليا مدحت المحمود تحت سيطرة المالكي، مما يعني عدم اتخاذ إجراء يذكر في المحاكم عندما يتعلق الأمر بمحاربة السرقة والرشوة والمحسوبية في القطاع العام.
يقف رئيس المحكمة مدحت المحمود على قمة نظام المحاكم في العراق، فهو يرأس مجلس القضاء الأعلى بالإضافة إلى المحكمة الفيدرالية العليا، اللتين من المفترض أن يوجها النظام العدلي ويشرفا عليه. تعرض المحمود للانتقاد لمحاولته تركيز السلطة القضائية في يديه والتدخل في قرارات المحاكم الادنى. اخبر احد مسؤولي الامم المتحدة مجموعة الازمات الدولية بان المجلس القضائي لا يتخذ اية قرارات دون ان يوافق عليها رئيس المحكمة، مما يعني ان أي سياسي يمتلك نفوذا او تأثيرا على المحمود يمكن له ان يسيطر على المحاكم. وقد حصل ذلك مؤخرا مع المالكي، فمنذ عام 2010 والمالكي يكسب احكاما لصالحه في الشأن الحكومي، من بينها قرار في كانون الثاني 2011 ينص على ان الهيئات المستقلة مثل البنك المركزي العراقي ومفوضية الانتخابات وهيئة النزاهة تكون تحت سيطرة مجلس الوزراء ما لم ينص الدستور على خضوعها لاشراف البرلمان.
أوضح قاض كبير أن سبب انصياع القضاة للمالكي مؤخرا هو ان تركيبتهم الفكرية قد صيغت بهذا الشكل في عهد صدام؛ أي انهم لا يفكرون بشكل مستقل بل ينتظرون التوجيهات من السلطة التنفيذية، وهذا هو سبب إصدارهم احكاما مشكوك فيها. يمكن ملاحظة إرث عهد صدام في تشكيلة القضاة في البلاد؛ حيث ان الكثيرين هم من بقايا العهد السابق بضمنهم رئيس المحكمة مدحت المحمود. كانت المحاولات الاولى لسلطة الائتلاف في اصلاح نظام المحاكم غير فاعلة الى حد كبير، لأن العراقيين لم يشاركوا في العملية وانهم رفضوا الكثير من الاجراءات الاميركية. جرى الكثير من التمحيص للقضاة في 2003-2004 نتج عنه اعفاء 180 منهم، ولازال هناك 530 من بقايا العهد السابق. لقد تغيرت الحكومة شكليا الا ان القضاة ظلوا على حالهم. من المحتمل أن تدريبهم على يد الأميركان لم يغير من عقيدتهم القضائية التي اعتادوا عليها في عدم اتخاذ أي إجراء مهم دون موافقة السلطات.
العنف والفساد أصابا القضاة أيضا. فما بين 2003-2008 تعرض أربعون قاضيا وأفراد من عوائلهم الى القتل. كما ان الكثير من قضاة التحقيق الذين يقررون ارسال القضايا الى المحاكم من عدمه كانوا خائفين من تنفيذ واجباتهم بسبب الهجمات. الفساد ايضا اصاب السلطة القضائية حيث يتلقى بعض القضاة رشاوى مقابل التغاضي عن الدعاوى او اسقاطها، مما له تأثير كبير على رغبة المنظومة العدلية في التعامل مع الابتزاز. بالنتيجة راحت الاحزاب السياسية تتملق للقضاة وتغازلهم. ان القضاة يعلمون بأنهم سيدفعون ثمنا عن قبولهم لقضايا كبيرة وبأنهم سيحفظون حياتهم اذا ما تغاضوا عنها، مما يعني ان السلطة القضائية قد تخلت عن دورها في مراقبة الحكومة. هناك الكثير من الامثلة على ذلك. ففي 2004-2007 لم ترسل هيئة النزاهة الى المحاكم اكثر من 8% من قضايا فساد تتضمن قرارات إدانة. منذئذ ارتفع عدد المقاضاة الناجحة لكنها كانت تشمل مسؤولين بمستويات دنيا، مما يعني ان القضاة لا يمكنهم تحدي الأمر الواقع.
خلال الولاية الاولى للمالكي في 2006-2010 لم يطالب نائب الرئيس عادل عبدالمهدي بمراجعة قضايا الفساد فقط وانما أمر ايضا بسحب قضايا معينة من المحاكم، وعندما رفضت هيئة النزاهة التعاون جاءها اتصال من رئيس المحكمة مدحت المحمود يأمرها بالتعاون مع نائب الرئيس. في عام 2010 أسقطت المحاكم اتهامات ضد وزير التجارة فلاح السوداني وافراد من عائلته كانوا يعملون معه متهمين بسرقة 4-8 مليارات دولار من نظام البطاقة التموينية. في العام الحالي قامت المحاكم بإجراء محاكمات ثم قلبت الاتهامات ضد رئيس مفوضية الانتخابات، بعدها اصدرت مذكرة قبض بحق مسؤولين في البنك المركزي العراقي. من المستحيل ان يحدث ذلك دون موافقة المالكي لأن القضاة كانوا دائما مترددين في قبول اية قضية يتورط فيها مسؤولون كبار. بنفس الشكل تملص الوزير فلاح السوداني لأنه عضو في حزب رئيس الوزراء.
كل هذه الاحداث تبين ان المنظومة العدلية ترفض اتخاذ أي إجراء ضد الفساد ما لم يدفعهم اليه قائد سياسي مثل رئيس الوزراء.
إن المحاكم تمثل العنصر الرابع في مؤسسات محاربة الفساد في العراق. من المفترض ان تعمل المحاكم والمفتشون العامون وهيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية معا. حيث يقوم المفتشون وهيئة النزاهة بتمرير ما تكتشفه الى قاضي التحقيق ليرى ما اذا كانت هناك ادلة كافية لارسالها الى المحكمة. ثم تجري المحاكمة في القضية واصدار حكم فيها. لكن بدلا من العمل معا في مراقبة الحكومة، فقد تم تقويض كل من هذه الهيئات على يد الأقوياء. لم تؤد المحاكم واجبها الخاص بالفصل في قضايا الفساد، وسقطت تحت سطوة رئيس الوزراء. هذا يشير الى توجه رئيس الوزراء الى فرض رغبته على المؤسسات المستقلة. النتيجة هي ان السرقة والابتزاز تستمر في العراق دون محاسبة الا اذا كانت تشمل مسؤولين صغاراً او انها مدفوعة سياسيا لأن النخبة الحاكمة عازمة على الاغتناء ولن تسمح لكائن من كان ان يقف في طريقها.

عن: أفكار عن العراق

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

صحيفة عبرية: "إسرائيل" وأميركا يخشوّن أنصار الله كونها جهة يصعب التغلب عليها

الأنواء تحذر من رياح عالية في العراق

مقتل إعلامية لبنانية أمام المحكمة

لا حلول لـ"الشح".. العراق يلوح بـ"تدويل" أزمة المياه مع تركيا لزيادة حصصه

اعتقال قاضي المحاكم الميدانية في سجن صيدنايا بسوريا

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

ملامح لتحالفات 2025.. الحلبوسي
سياسية

ملامح لتحالفات 2025.. الحلبوسي "إطاري" وتصالح مع السوداني

بغداد/ تميم الحسن في موجة جديدة هي الأعنف ربما، دخل محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان السابق، في صراع مع خصومه السُنّة وجزء من الكُرد.تصاعدت الخلافات بشكل متزامن بعد عودة الحلبوسي من زيارة مثيرة أجراها زعيم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram