لا أفهم كيف لنائب منتخب، أن يخرج الى الناس ويقول لهم جئنا لكي نهذّب أخلاقكم، ولا أعلم كيف يرى هؤلاء العراق وكأنه بلد بلا أعراف وأهله لا يعرفون القيم الاجتماعية، وأن يصوروا للناس ان البلاد تنتظر أن يشكل مجلس أعلى للقبائل والعشائر مهمته القضاء على العادات والتقاليد السيئة.. بينما الناس لا تشكو من انحلال أخلاقي، وإنما تعاني من مظاهر اللصوصية والقتل على الهوية واحتقار المرأة والرشوة وسرقة المال العام والانتهازية وهي قيم وتقاليد يسعى البعض لترسيخها بقوة.
إن المشهد يبدو مثيرا للدهشة حين يقف النائب محمد الصيهود وسط البرلمان ليطاب بـ: "ضرورة تشريع قانون المجلس الوطني للعشائر لتهذيب الأعراف الطارئة على المجتمع العراقي، ولكي يكتسب ما ينظمه المجلس صبغة قانونية للالتزام بما يصدر عنه في القضاء على العادات والتقاليد السيئة".
لعل هذا الاستغراق في الحديث عن الأخلاق والأعراف يشعرك وكأن العراق تأسس عام 2003، وان السادة النواب كان لهم الفضل باكتشاف هذه الرقعة الجغرافية التي وجدوا على سطحها أقواما وقبائل متوحشة، كانوا ينتظرون أن يأتي إليهم الفاتحون الجدد بكل اسباب الرقي والتحضر، ولعل حديثاً من هذا النوع في عصر المنجزات العلمية الكبرى يهين عقلية العراقيين، ويسيء إلى العراق في الوقت ذاته، ذلك أنه يحمل اعترافا ضمنيا بأن هذه البلاد لم تهضم الحضارة برغم مرور آلاف السنين على بزوغ القوانين الكتابة على سطحها.
وأحسب أن مطلقي هذه التصريحات الكوميدية يدركون قيم هذا المجتمع ظلت راسخة في أعماق الناس، حتى خرج عليهم أمراء الطوائف وصبيان السياسة فانقلب الحال وأصبحنا نسمع دعوات للاحتشام والعودة إلى طريق الهداية، في ظل غياب كامل للخدمات وصراع سياسي على المناصب والمنافع، وحين يشكو المواطن من سوء الحال يخرج عليه احد الذين نصبوا أنفسهم أوصياء ليرتدي زي الوعاظ مطالب الجميع بان لا يخرجوا على إرادة الحاكم الذي هو ظل الله على الأرض، وما على الرعايا إلا الطاعة والتسبيح بحمد الحكومة ليل نهار، بل ذهب الخيال بالبعض أن تصور نفسه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ هذا الشعب المارق وإخراجه من عصور الجاهلية الى عصر الحضارة.
طريقة ساذجة للغاية للهروب من الواقع، وكأن حياة الناس وحرياتهم قضية اخلاقية، مقطوعة الصلة بالعديد من المشاكل والمساخر السياسية والاقتصادية، التي أوجدتها سياسات حكومية مختلة عقليا.
يريدون أن يشغلوا الناس بالقشور دون الغوص في جوهر المشكلة، بحيث ينصرف المجتمع كله إلى مناقشة حكم العشيرة في المطالبة بالحريات، وحكم القبيلة في الاختلاف مع الحكومة، وحكم أولي الأمر بما يدور حولنا من مهازل ومضحكات.
ولو دققت فيما يدور الآن من أحاديث وخطب وصراع سياسي، ستجد ظلالا من عالم الطائفة والقبيلة، ولنأخذ مثلا ما يصرح به المقربون من رئيس الوزراء كل يوم عن ضيقهم من شركائهم السياسيين، محذرين بلغة أهل القبائل من أن الاقتراب من منصب رئيس الوزراء خط احمر.
لقد كان المالكي صاحب الريادة في إشاعة الروح القبلية، ولعل الذاكرة مازالت تحتفظ له بالصورة الشهيرة وهو يوزع المسدسات الفاخرة على البعض من رؤساء العشائر، يدعوهم فيها لفرض القانون على طريقتهم الخاصة، وترهيب كل من تسول له نفسه التفكير في الخروج على مشروع دولة القانون أو الاقتراب من أسوار الحكومة.
إذا كان ذلك واقعا فرض على الناس في زمن صدام حيث الولاء للقائد اولا وثانياً وثالثاً، وللعشيرة رابعاً، اما الان فلا يمكن تخيل الأمر او القبول به وقد عرفت البلاد انتخابات وبرلمانا ومؤسسات تشريعية وتنفيذية، المفروض انها تدفع بالعراقيين الى التطلع الى مستقبل افضل واكثر انسجاما مع روح العصر وقيمه.
لكن يبدو ان البعض لايعرف من الوطن الا قبيلته، وهو مخلص لها إخلاصا لا يمكن لاي قضية اخرى ان تتجاوزه. فنحن نعيش في ظل نواب منتخبين لكنهم يدينون بالولاء لطوائفهم وقبائلهم قبل ان يدينوا بهذا الولاء للشعب والوطن، قد يقول البعض أن هذا من حقهم ونقول أيضا هذا حقهم بشرط ان يتركوا السياسة وينصرفوا الى مشاريعهم الخاصة.
والمدهش أن البعض يريد إقناع الناس بان القبيلة يمكن ان تكون بديلا لدولة المؤسسات، ناسين انهم بمحاولتهم هذه إنما يريدون يطرحوا في أسواق السياسة نظام صدام بغلاف جديد من اجل تدمير البلد الذي يعيش هذه الايام على فوهة الخطر.
نواب أم زعماء قبائل؟!
[post-views]
نشر في: 16 نوفمبر, 2012: 08:00 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...