لابد من التذكير بداية، بأنه بالرغم من نشاط أحزاب و قوى معارضة الدكتاتورية و تضحياتها الكبيرة و التضحيات الشعبية الجسيمة لإسقاطها . . سقطت الدكتاتورية بإرادة دولية عظمى و ليس بسواعد أبناء و بنات البلاد، حين شنت الإدارة الأميركية الحرب و أعلنت الاحتلال و عيّنت السفير بول بريمر الذي أصدر قرارات أثبتت السنوات اللاحقة أن تطبيقها عاد بأضرار بليغة لكيان الدولة العراقية وكيان مكوّناتها المتنوعة الأطياف . .
و قد أُعلن عن إعادة تشكيل الدولة على أساس تحاصصي مذهبي إثني (*) افترض فيه أن يعكس المكوّن الانثروبولوجي للبلاد. و تشكّلت السلطة الحاكمة على أساس دستور جرى التصويت عليه، و انتخابات تشريعية جرت للمرة الأولى منذ إعلان الجمهورية . . رغم أنواع الاعتراضات على نزاهة عمليات الانتخابات و التصويت، التي حكمت لصالحها المحكمة الدستورية العليا .
و لابد من القول بأنه في خضم سيادة أنواع الفوضى و عمليات الإرهاب و ردود الأفعال المتنوعة الداخلية و الإقليمية . . لعبت المرجعيات الإسلامية المذهبية الشيعية إضافة إلى السنيّة، دوراً كبيراً في إيصال الأحزاب الدينية إلى سدة الحكم، حيث ادّعت الأحزاب الدينية بأنها تمثّل المرجعيات من جهة، و بسبب توجيه رجال دين و مرجعيات بذلك أيضا من جهة أخرى، على أرضية التخلف الفكري والسياسي الموروث من حكم الدكتاتورية البغيض لأوساط واسعة . .
إلاّ أن مراقبين مطّلعين يرون أن تبدلاً قد بدأ يحصل على ذلك التوافق منذ أن بدأت المرجعية الشيعية العليا تطالب الحكومة بإيلاء الاهتمام الضروري للاستجابة إلى المطالب المعيشية للشعب وإيجاد حلول لمشاكل البطالة و الفقر و الكهرباء، التي لم تستجب . . حتى وصلت إلى نداء آية الله العظمى السيستاني في خضم التحضير للانتخابات التشريعية الأخيرة، حين نادى رجال الدين إلى عدم الترشيح في الانتخابات و إلى عدم الانشغال بأمور الحكم التنفيذية، و ترك السياسة لرجالها، حفاظاً على الدين و على الدولة، و دعاهم إلى الانصراف أكثر إلى الواجبات الدينية و إلى النصح و الإرشاد . .
و يرى متابعون أن تواصل عدم اهتمام حكومة المالكي و رجالها بنداءات المرجعية الشيعية العليا، أدى إلى امتناع آية الله السيستاني عن تلبية طلبات المالكي بمقابلته و امتناعه عن مقابلة ممثلي الحكومة القائمة . . الذي يبدو انه أدى بدوره إلى تصريحات أوساط مقرّبة من قيادة المالكي لحزب الدعوة الحاكم، أفادت بنشاط الحزب المذكور لاتخاذ آية الله الشاهرودي مرجعاً أعلى له، تعبيراً عن الابتعاد عن المرجعية العليا للسيد السيستاني ـ باختصار شديد ـ .
و ترى مراجع في الحوزة الدينية في النجف الأشرف، أن الأحزاب الدينية وظّفت دعم المرجعيات للوصول إلى الحكم و لتشديد الطائفية، ثم إنجاز المحاصصة الطائفية، و إن الأحزاب الدينية لم تعد أحزابا دينية كالسابق . . لعدم أخذها بآراء المرجعيات الداعية إلى حل المشاكل المعيشية للناس و احترام الدستور و تنفيذ بنوده الأساسية كمواد ؛ الحكم الفيدرالي الاتحادي، الحريات، الصحافة وغيرها، و لعدم التزام الحكومة بحرمة استقلالية الهيئات الدستورية المعترف بها دولياً كهيئات : مفوضية الانتخابات، المحكمة الدستورية العليا، البنك المركزي و غيرها . . وفق أنباء نشرتها الصحف المحلية، و أفادت بتوجه جهات حكومية لتحذير خطباء المنابر الحسينية من انتقاد الحكومة و من تناولهم المطالب الشعبية، على حد تعبيرها.
و مما سبقت الإشارة إليه و غيره، يرى محللون أن الوضع يسير نحو زيادة الفردية، التي تتوضّح مؤخراً بمحاولة الحكومة تمييع قضية تحديد ولاية الرئاسات الثلاث عملا بروح الدستور، ومحاولتها تجميع أنصار و مؤيدين من كل الأطياف المذهبية خلفها بشخص رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة، مؤدية ـ وسط تساؤلات واسعة ـ إلى احتمالات أن تكون المحاصصة بقيادة فرد ضرورة أو حزب قائد، بعد مرور عشر سنوات على مسيرة سياسية يفترض فيها أنها أسست و طوّرت مفهوم التعددية و المشاركة و تقبّل الآخر، و يفترض أنها استطاعت خلالها من تأسيس واضح لدولة فيدرالية قائمة على الانتماء لهوية الوطن الواحد و على الالتزام بالدستور.
و يحذّر محللون و وكالات أنباء دولية من زيادة مفاهيم و تعابير القوة و العنف في الخطاب السياسي للحكومة و للكتل المتنفذة، إضافة إلى تزايد استخدام الحكومة للتهديد بالعنف و إلى تجميعها القوة اللازمة لتنفيذ ذلك . . و تزايد صرف أموال هائلة لاداعٍ لها الآن على التسليح كمّاً و نوعاً ـ بتقدير متخصصين ـ . .
و إن ذلك، بالإضافة إلى مايجري بين الأحزاب الدينية و المرجعيات . . قد يؤدي بمجموعه إلى افتراق حقيقي عن المرجعية الشيعية العليا للسيد السيستاني و المرجعيات ذات المواقف الوطنية من جهة، و إلى مسلسل خلافات و صدامات و دماء جديدة و إغراءات بمناصب و أموال هائلة، من جهة أخرى . . ليعود الحكم شئنا أم أبينا إلى سكة الحاكم السابق، سكّة حكم حزب حاكم ـ أو فرد ضرورة حاكم ـ (يراعي) تناسب التكوينات . . التي (راعتها) حتى الدكتاتورية المنهارة حين حسبت ذلك في تكوين قيادة الدولة حينها بقيادة حزبها الحاكم المقيت . .
(*) يشير متخصصون إستراتيجيون إلى أن الإدارة الأميركية قد خططت لذلك ـ لأسباب متنوعة ـ منذ مؤتمر بيروت للمعارضة العراقية الذي عقد إثر اندلاع الانتفاضة الشعبية ضد دكتاتورية صدام في ربيع عام 1991 . . في وقت دفعت و حاولت فيه أطراف إيرانية نافذة آنذاك الهيمنة على الانتفاضة وتجييرها لولاية الفقيه الإيراني، إن صحّ التعبير .