TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "أقلية إسلامية" أحبها

"أقلية إسلامية" أحبها

نشر في: 18 نوفمبر, 2012: 08:00 م

لأول وهلة يبدو غريباً أن نتحدث عن أقلية إسلامية في العراق او المنطقة التي يهيمن عليها التيار الديني الاكثري، في ربيع السياسة وصيفها، ومن الدكتور مرسي الى الاستاذ المالكي. ولكن حين ننتبه جيدا سنجد هذه الاقلية الملتزمة دينيا والحاضرة داخل الحالة الاسلامية ونستشعر وجودها واثرها ونجد انفسنا نتواصل معها بشكل يحتاج الى تطوير جدي.
وما اعنيه في هذا المقال هو المسار الاسلامي المعتدل الذي يؤمن بقوة بمجموعة ثوابت، فهو يؤمن بضرورة الانفتاح على التيارات الاخرى بتنوع ثقافاتها والتعايش معها. كما يؤمن بضرورة التحلي بشجاعة كافية لتغيير وتعديل ونقد الكثير من الفتاوى التاريخية في الفقه واللاهوت تحت شعار فتح باب الاجتهاد بشكل جدي، ولتمكين الجماعة الدينية من البقاء حية وفاعلة داخل تطورات العصر المتسارع. ويؤمن ايضا بضرورة مراجعة تاريخ الاسلام السياسي ونقده والاعتراف بالاخطاء القاتلة التي وقع فيها المتشددون وشطب مفهوم التكفير وهدر الدم من قاموس التعاليم السياسية للجماعة الملتزمة بالدين، وذلك باستعارة "اخلاق التفاوض" والحوار التي اعتمدها الغرب لبناء تعددية صحية وسلم اهلي متين.
وعبر تجربتي الشخصية لم اعثر بالصدفة على هذا التيار ولم ألتق بممثليه في لقاء عابر، بل اتاحت لي ظروف الدراسة والكتابة ان اكون قريبا منهم فترة طويلة، وابقى على صلة معهم احرص على توثيقها واحترامها. وكان مناخ مواقع التواصل الاجتماعي الذي يجعل الملايين يقيمون في غرفة واحدة تقريبا، فرصة للتواصل مع جمهور الاسلام المعتدل تكرس قناعتي بأن هذا التيار مهم وله دور حاسم في اي مرحلة تنوير نترقب خوضها او الانخراط فيها.
الاقلية الاسلامية المعتدلة هذه تتابع ما نكتب نحن العلمانيون، وانا شخصيا محظوظ بأن كل الافكار التي تتضمن احيانا ذلك النقد القاسي لسلوك التشدد، تلقى اهتماما نبيلا من جانبهم. وفي بعض المناسبات تصلك رسالة مهذبة تحمل عتبا بنعومة متمدنة ومحببة يقول كاتبها: يا سيد فلان، انا اسلامي ملتزم اتابع ما تنشر من افكار واهتم بها واخوض معها حوارا مع نفسي ودائرة اصدقائي، لكنني زعلت وتألمت لكلمة كذا قلتها انت اليوم او لعبارة كذا كتبتها امس. نرجو مراعاة مشاعرنا واخذنا بعين الاعتبار.
ان هذا اللون من المشاعر والمقترحات يترك اثرا طيبا في النفس، ويملأ الروح بالتفاؤل، فمقابل شخصيات مأزومة "تشتم الرايح والجاي" من العلمانيين، بلغة قاسية حد التحجر، هناك شريحة واسعة تخاطب الخلافات بعبارة أنيقة وروح شفافة وبمعايير متمدنة. وهذه طباع ليست بغريبة على كل منتم للاتجاهات المعتدلة في مختلف الديانات والمذاهب الفلسفية والفكرية.
لكن علينا ان نتذكر ان الاقلية الاسلامية المعتدلة هذه تعاني مشاكل شبيهة بمشاكل الاقلية الليبرالية وتيار الحريات في الشرق الاوسط، ولان لدينا مشاكل مشابهة فإننا كعلمانيين حين نعترض على سلوك متشدد للتيار الديني، فإنما نعترض على المشكلة التي يعاني منها معتدلو الاسلاميين انفسهم، وهذا ما اتمنى ان يتذكره اصدقاؤنا في هذه الاقلية العزيزة حين يشعرون احيانا انهم مقصودون بالنقد والاعتراض العلماني بسبب كاتب او متحدث استخدم اداة تعبير عامة ولم يلجأ الى وصف دقيق لصورة المشكلة التي ينتقدها. ولا شك ان لدينا تشددا علمانيا لا يفرق بين اعتدال وراديكالية ويتمنى في لحظة تعصب ان "يلقي بكل مرتادي الجوامع في البحر" لكن الليبرالية في توجهها العام هي ابرز اتجاه فكري يعترف بحق المرء في اعتناق اكثر الافكار الدينية غرابة شرط ان لا تتحول الى تحريض ينتهي بالعنف.
ان حبي لهذه الاقلية الاسلامية لا يعني ابدا انني اكره الاكثرية الملتزمة اصوليا وحتى راديكاليا، فالاسلام جزء اساسي من هوية كل الاقوام التي قطنت الشرق الاوسط خلال آخر ١٥ قرنا، وكلما جلسنا مع مفكري الامم المتقدمة ونخبتها لم نجد ما نفاخر به سوى ابن سينا والخوارزمي وابن رشد والجاحظ، وكل هؤلاء وامثالهم اما ائمة لاهوت وفقه وحكمة، او علماء نشأوا وسط ابرز تجليات الحضارة الاسلامية في عصرها الذهبي. ليبراليو المسلمين وعلمانيوهم يفاخرون بعيون التاريخ الذي يقدسه كل مسلم. لكن الانحياز لمعتدلي التيار الإسلامي هو انحياز لمستقبل الأكثرية المسلمة. فالتشدد سينتحر او ينقرض ولا مكان له في المستقبل البشري، اما الدين كطاقة روحية تملأ تاريخ البشر، فهو شأن ابدي لن يقضي عليه احد، بيد انه يتطور ويتحول ليتعايش مع تغير الزمن ونتائج الكفاح الإنساني.
الاقلية الاسلامية المعتدلة هي مستقبل دين الشرق الأوسط الأكثر سطوعا، تستحق منا كل اجلال، وتطرح علينا توثيق الحوار المفيد بين العلمانية والليبرالية والدين، كي نصوغ معا سؤال العيش المشترك، واستحقاقاته وكلفة غياب التسامح، وهو غياب دفننا في أخدود من نار يخرجنا من أتون حرب ليدخلنا في سعير أخرى. لذلك انتم أقلية أحبها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. جليل اسماعيل

    انها دعوة حقيقة من كاتب يدعو الى الحوار الهادف والرصين والنقد البناءوكذلك ما تم طرحه من لغة عقلانية للتواصل مع الاخر لان الشعوب لاتسطيع العمل والبناء دون الحوار وتفهم افكار وايدلوجيات المنتج الانساني الثر

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram