أسقطت الجماهير في عدد من الدول العربية قبل عامين تقريبا أنظمة استبدادية ظالمة ينخرها الفساد, وقد تقدمت المطالبة بالحرية الديمقراطية على جميع المطالب التي رفعتها تلك الجماهير ضد ذلك الفساد والاستبداد . ومن التغييرات التي حصلت حتى الآن , وهي متباينة بحسب البلدان , أن مبدأ هذه الحرية غير واضح بما فيه الكفاية في تصورات الجماهير .
ولذلك فإن الانتخابات آلية مهمة لتنظيم عملية تداول السلطة , إلا أنها ،على أهميتها , ليست كل شيء , فإذا كانت الحرية الديمقراطية هي ثمرة من ثمار حركة التنوير الأوروبية , التي أحدثت صدى طيبا وواسعا في نهضة الشعوب العربية منذ القرن التاسع عشر , وإذا كانت الشعوب العربية تريد حقا أن تعيش في فضاء الديمقراطية , فإنه لا بد لحركة التنوير العربية من أن تفكر في هذه الحرية وفي ضوء جميع المستجدات التي تعيشها حركة التغيير الكبيرة في أغلب البلدان العربية .
الفرد في المجتمع الديمقراطي قيمة في حد ذاته , وهو كائن ذو كرامة وقدرة على تدبير شؤونه بنفسه , وهو يدرك بأنه جزء لا يتجزأ من المجتمع الذي ينتمي إليه , فالحرية التي يطالب بها هي لنفسه وللآخرين , ولنفسه مع الآخرين , وللآخرين معه , وتلك هي المساواة في الحرية والكرامة , والخطر الذي يهدده يكمن بالضبط في نسيان أن وجوده مع الآخرين يحدد مدى تعامله مع حريته , وهذا النسيان هو في أساس تحول الديمقراطية إلى ديمقراطية أنانية ومنفلتة , التي تنتهي إلى تدمير المؤسسات والروابط والتقاليد الاجتماعية والأفراد أنفسهم , ولذلك فلا بد من فضحها والتصدي لها بجميع الوسائل الإعلامية والتربوية والتشريعية , باسم الحرية نفسها , من جهة , وباسم العدل من جهة أخرى .
قد يقال إن المشهد السياسي في البلدان العربية قد لا يفسح المجال حاليا لمثل هذه الحرية , وهذا قول صحيح نوعا ما , ولكن على مستوى الواجهة فقط, فالنقاش حول الحرية الديمقراطية في هذا المشهد يتجاوز المسائل المتعلقة بحقوق الأفراد المدنية والسياسية, ويدور على مبادئ الديمقراطية وصورتها العامة , ولكن , لماذا لم يتوصل الفكر الديمقراطي العربي, على الإجمال, حتى هذا اليوم إلى امتلاك نظرياته الخاصة حول الحرية والديمقراطية والأسس الفلسفية .
النقاش بين الديمقراطيين العرب وخصومهم يدور في معظم الأحيان حول صورة معينة من الديمقراطية, وهذه الديمقراطية مستوردة من البلدان الغربية , وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية , وهي صورة تعكس الديمقراطية المنفلتة أكثر من أي ديمقراطية أخرى .
ومعظم الذين يعارضون الديمقراطية في البلدان العربية , باسم الهوية والتقاليد والأصول , يوجهون اعتراضاتهم على الديمقراطية المنفلتة, كما يرونها في البلدان الغربية , وهذا يعطيهم أسبابا للتحفظ الشديد عليها ورفضها والحذر منها , وكذلك يعفيهم من مسؤولية الخوض بجدية في حقيقة الحرية ومكانتها في الوجود الإنساني, أما الذين يدافعون عن الديمقراطية فهم مكتفون بالصورة التي يرونها عن بعض فضائلها في الاقتصاد والسياسة والإعلام , وإنهم يسلكون طريق السهولة ويعفون أنفسهم من التفكير في أصول الحرية الديمقراطية وكافة مستلزماتها, وهي أصول ومستلزمات تقودهم إلى تأسيس الحرية الديمقراطية على حقيقتها الوطنية وعلى أخلاقيات المسؤولية والتكافل الاجتماعي لها, حيث أن الفرد الديمقراطي هو مواطن, والمواطن لا وجود له إلا في وطن وشعب وطني ودولة وطنية .
إن وصف الديمقراطية في تأويلها الفردي بالمنفلتة , يفترض أن تكون منضبطة داخل حدود معينة تفرضها اجتماعية الإنسان ومقتضيات الأخلاق , ولكننا نعلم أن مسألة الحدود الفاصلة بين الحرية المنفلتة والحرية المنضبطة مسألة صعبة , وليس من سبيل لحلها , إلا أن هذه الصعوبة ليست سببا كافيا للتهرب والتخلي عن هذه القضية , إذ أنها قابلة للتغيير بحسب الظروف الاجتماعية المتغيرة بالحوار العقلاني , والذي يبدأ باعتراف الجميع بأنه لا بد من حدود معينة يلتزم المواطنون باحترامها , وفقا لمقتضيات الميادين التي يعملون بها , كأن تكون اقتصاداً أو اجتماعاً أو سياسة أو فنوناً وغيرها ومن هنا , فمن المهم استكمال فلسفة الحرية بفلسفة السلطة, لأن حسم النقاش في الشؤون العامة يرجع في تحليله الأخير إلى قرار تتخذه السلطة السياسية , ولكننا إذا حصرنا المسألة في ثنائية الحرية والسلطة , فإننا سنقع حتما في تناقض مختلف , إذ أن السلطة تهدف إلى العمل ضد الحرية, والحرية تهدف إلى العمل ضد السلطة, ولذلك فلا بد في نهاية الطريق من ربط ثنائية السلطة بالحرية بثنائية أخرى, ألا وهي ثنائية العقل والعدل , وذلك لأن الرجوع إلى العقل والعدل يضمن أفضل الشروط لما يمكن أن يكون قرارا صحيحا وواضحا .
ولكن , إذا كانت الديمقراطية المنفلتة لا تعطي عن الحرية الديمقراطية سوى صورة سطحية لها , وهي صورة مشوهة ومنحرفة وخادمة لأغراض سياسية أجنبية أكثر مما هي خادمة لأغراض سياسية وطنية , ولذلك فإن الإسلام السياسي المتمثل في الأحزاب التي ترفع شعارات إسلامية في عملها الحزبي لا يعطي صورة أفضل إثارة لمشاعر الاطمئنان , فالمسألة إذن ليست مسألة تصريحات يطلقها هذا وذاك من رجال الدين أو رجال السياسة لإرضاء أشخاص معينين , وليست أيضا مسألة قرار لتنظيم سياسي , إسلامي التوجه والأصول , فالمسألة هي مسألة القاعدة النظرية للإسلام السياسي والسياسة الفعلية للإسلام السياسي في ما يتعلق بالحرية الديمقراطية .
ولذلك فإن ما يجري في البلدان العربية حول الحرية الديمقراطية من نقاشات خاطئة أو مرتبكة أو مخادعة , فهي لا تهم أنصار الديمقراطية وحدهم , بل تهم جميع الأحزاب والتيارات السياسية والفئات الاجتماعية المختلفة , ولذلك تحتاج حركة التغيير بجميع مكوناتها إلى نظرية واضحة , متماسكة وملائمة , ويجب أن يكون موقفنا منها واضحا وصارما في نفس الوقت , كما هو الحال بالنسبة إلى المفاهيم الواردة من التراث القديم ومن مصادر الدول الغربية , ولذلك يجب أن يكون موقفنا باختصار , هو أن البلدان العربية غير مضطرة إلى اعتماد أي نموذج غير النموذج الذي تبنيه بنفسها على أساس المبادئ الإنسانية العامة لفكرة الحرية الديمقراطية , وهذا بالطبع أمر صعب , ولكنه أفضل من كل تقليد أعمى , ومن كل تقليد كسول , وبعد كل هذا , أليست الحرية الديمقراطية فضاء للمبادرة والإبداع ؟
إن كل النماذج المبنية في العالم المعاصر حول الحرية الديمقراطية عبارة عن أنظمة وظف فيها كل شعب من الشعوب العربية قدرته الخاصة , وعبقريته الخاصة , في أن يكون شعبا حرا مؤلفا من مجموعة من المواطنين الأحرار , وإن هذه الشعوب جميعها تكاد تشترك في المبدأ , وتختلف قليلا أو كثيرا في التطبيق , نظرا إلى خصوصيات الشعوب التي أقامتها , ومتى كان هذا المبدأ واضحا وراسخا في العقول والأذهان , فإن النموذج العربي سيفرض نفسه , لا النموذج الغربي .