١٩ أيار هو اسم أطلقته مع الأصدقاء على تحالف أربيل والنجف الذي تحمسنا له الصيف الماضي. أما مطر المالكي فهو نفس مطر صدام حسين والبكر وعارف وصولا الى اقدم حاكم امسك بتقاليد بلادنا الصعبة. ومثل ملايين العراقيين فإنني أغوص في أوحال أرضنا حين تمطر كي أصل بصعوبة الى محل عملي، وحين فعلت هذا صباحا ورحت أتقافز على حجارة هنا وكسرة اسمنت هناك، عادت بي الذاكرة الى عهد الطفولة يوم كنا نخوض عباب محيط متلاطم الامواج يغرق الشوارع المؤدية الى "مدرسة الصمود الابتدائية" وكانت طفولة صامدة حقا، نعبر محيطات مياه الأمطار والمجاري والأخطاء العمرانية، فيما تمطر علينا صواريخ الحرب المشتعلة قرب شط العرب الذي يمتص حيرة دجلة والفرات معا ويحدق في البصرة حاملا حيرتين مضاعفتين بمآلات اهل البلاد ومصائرهم.
حكام هذه البلاد لم يجدوا حلا رغم مرور مئة ألف عام على ظهور فصيلة نياندرتال في الشرق، لتصريف مياه المطر في عراق يقتله الجفاف ويسميه الرحالة واحة فريدة تتوسط صحراء العرب وجبال العجم.
حكامنا المنشغلون بتكديس الأسلحة وتعبئة الجيوش وخوض هزائم لا تحصى، انفقوا المال على كل شيء، لكنهم تركونا نخوض في الاطيان والاوحال من وزيرية بغداد حتى تنومة البصرة، وهم كلما لمحوا وحلا لزبا ولزجا تذكروا الشعب وتفننوا في تمريغ اجسادنا به، تحت شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة".
بلاد الطين هذه شهدت الصيف الماضي اول موقف منسق ومصمم بعناية لمراجعة أداء رئيس الحكومة، وقلت أنا وغيري يومها ان تحالف أربيل والنجف قد يفشل في سحب الثقة دستوريا، لكن في وسعه أن ينجح بحماية التعددية السياسية وكبح جماح الاستبداد في ادارة شؤون العباد. وفرحنا حين جرى تنسيق طيب أوقف مهزلة "البنى التحتية" الى جانب بضعة مواقف اخرى اشعرتنا بوجود طرف قادر على المحاسبة والمراقبة تحت شعار "اختلاف امتي رحمة" الا ان مجموعة كوارث ونوازل تمر بنا مؤخرا لم تشهد اي ظهور علني لجماعة ١٩ ايار او اطراف اجتماعي اربيل والنجف!
سلطاننا استولى اخيرا على السلطة النقدية والبنك المركزي ولم نشهد موقفا منسقا لتحالف ١٩ ايار. وحرك قوات تهدد السلم الاهلي وتلغي عمليا مشاريع الحوار وأخلاق التفاوض المطلوبة لحل مشاكلنا القديمة، ورفع هراوته وراح يتسلق جبال حمرين عاصفا مرعدا، ولم نشهد موقفا منسقا لتحالف ايار. كل اعضاء هذا التحالف كانوا يعلمون ان نجاح المالكي في ضرب ائتلاف العراقية سيعني نجاحه في ضرب الكردستاني ثم الصدري والمجلس الأعلى، وجميعهم تلقوا ضربات خفيفة وثقيلة وينتظرون المزيد كلما اقترب استحقاق لتداول السلطة في بغداد أو المحافظات، وتحالف أيار يتجنب الظهور العلني.
اسأل خبيرا كبيرا من صميم البيت الشيعي عن هذا الصمت وغياب الموقف، فيقول لي بالحرف: الكثير منهم صامت بأمل أن يرتكب المالكي حماقة حقيقية ويتسلق جبلا كرديا كي تزل قدمه ونخلص منه!
طيب يا سادتنا، ومن سيدفع الثمن حتى تلك اللحظة، وكم من الويلات سنحتمل وانتم تحجمون عن ردع ابن الوطن البار وكبح جماحه، حتى تنفلت الأمور؟ وماذا لو تنقل برشاقة على التلال والهضبات المختلطة عرقيا وطائفيا ونجح في تأجيج مشاعر كل المعسكرات وتركنا وترككم انتم جماعة ١٩ ايار، ننزلق في أطيانه وأوحاله ونتخبط تحت أمطاره التي أنشأت اليوم منطقة منكوبة بالطين والفيضانات، من وزيرية بغداد حتى تنومة البصرة؟
ليس في بلادنا ديمقراطية راسخة ولا مستقرة، لكننا سعداء بتعددية سياسية يمكنها ان تمثل مدخلا شرعيا للاستقرار الديمقراطي ومنع ظهور الدكتاتور. وحماية هذا التعدد مهمة لا يقدر عليها حاليا سوى قرار لقاء سريع وعاجل بين اطراف اربيل والنجف، يطرح نقاطا تكبح جماح القرارات العسكرية المنفردة سواء لاربيل او بغداد، ويضع خارطة طريق لمعالجة اي خلاف حول الارض لتجنيب البلاد جهنمات الحروب التي لم يخرج منها احد مزهوا، ولم تترك اي اسرة بلا مصيبة او ويل خلال آخر ٤٠ عاما. وعدا ذلك فإن أمطار السلطان لن ترحم، وفلسفته في تدعيم نفوذه لن تقف عند حد، وخزين بلادنا من الأطيان يكفي لإغراق ١٠ شعوب بأوسخ المصائر. إنها لحظة يثبت فيها الشجاع حكمته وممكناته السياسية، أما سيوفكم فمللنا من طعمها وما التصق بها من روائح الهزيمة. وكل ١٩ أيار وأنتم بخير.
جميع التعليقات 1
رحيم العكيلي
تسحرني لغتك وقدرتك على تجميع وتفكيك عقد هذا البلد ومشاكله انك ياسرمد الطائي كاتب ومحلل من طراز رفيع وليت قادتنا قادرون على فهمك والاستفادة من طروحاتك العميقة