اكتب هذا المقال داخل التاكسي وقد وصلت إليه بالكاد حين خرجت تواً من "محيطات" الوزيرية متلاطمة الأمواج كما فعلت بالأمس، وكحال ملايين العراقيين المنكوبين بإعصار الفشل السياسي والإداري المزمن. ولكن ظهرت أمامي اليوم محنة جديدة وأنا غائص في طيننا التاريخي ومياه سمائنا التي لم تمطر خبرا جيدا هذه الفترة. فبينما شغلت كل الرادارات للعثور على موطئ قدم داخل الشوارع المنكوبة في قلب بغداد التاريخي، راح سائق شاب يطلق هورنات سيارته ويطالبني بالابتعاد عن مسير سيارته الفارهة، اما الشاب الذي يقود سيارة اخرى فلم يعبأ بي (ولا هورن ولا هم يحزنون) ومر مسرعا ورشقنا جميعا برذاذ وحل أرضنا وقيادتنا الحكيمة.
الرشق برذاذ الوحل لم يقنع السيارة الأولى بالتوقف عن إطلاق الأبواق والمزامير، فالشاب المقبل على الحياة ليس لديه وقت لانتظار خطواتي المتعثرة ويريد مني ان ابتعد عن مساره، وانا اتحرك بصعوبة مثل كل الشعب الغائص في الطين. قلت له: اعتبرني سيارة سايبا تتحرك بصعوبة امامك وامنحني بضعة ثوان كي اغرب عن وجهك. شعر بقليل من الحياء ثم انعطف ومر بجانبي يزهو بسيارة رباعية الدفع رشقتني هي الأخرى بما لذ من خيرات الأرض والسماء.
ماذا دهى الناس، وما بالهم لا يتراحمون حين تقسو علينا كل الظروف؟ الشباب المذكورون كانوا يشبهون اي حزبي او حكومي سيئ، وهم لا يبالون بالناس ولا يرون سوى مقود سياراتهم، ويفعلون مع غيري ما فعلوه بي بالتأكيد، وهم ليسوا حالة شاذة فلدينا شريحة واسعة من أبناء الشعب تعرضوا لظلم كبير وقرروا في لحظة يأس ان ينخرطوا في ممارسات ظالمة هي الأخرى. واخطر قرار يتخذه المظلوم في الدفاع عن نفسه هو قرار أن يصبح أنانيا غير متعاون وشرسا في السعي لتأمين مصالحه. وجزء كبير من مسؤولي اليوم كانوا على هذه الشاكلة بالأمس، بدأوا مظلومين وكان رد فعلهم الانخراط في مسار أناني عابث يقود البلاد والعباد الى أسوأ أوحال التاريخ مع الأسف.
في هذا الشعب أخيار وطيبون، تجدهم في اعلى مستويات القرار او ابسط الطبقات الشعبية. يمد لك يد العون ويتصرف بلياقة حتى لو كان حافي القدمين. لكن الكثير من ابناء شعبنا يشبهون السلطة السيئة، في أنانيتهم وقدرتهم على سلب حقوق الآخرين، واستعدادهم للوصول بالرعونة الى منتهاها، وفي ضيق الأفق وحمق الرأي. والأمم الراقية هي القادرة على اكتشاف الموهوب الخبير الطيب او الملتزم بالمعنى الحضاري، وجعله سيدا فيها يرفع من شأنها ويصلح حالها. اما الأمم غير المحظوظة فتحصل على حاكم يشبه أسوأ محكوميه.
في الشعوب الحية التي يتسيد أخيارها، يخرج الحاكم من أفضل شرائح الرعية المحكومة، وفي الامم السيئة يتسيد الاكثر غباء والأشرس أخلاقا والأشد انانية والأقل خبرة.
وحين تكون هناك شريحة واسعة من الظلمة الانانيين بين ابناء الشعب، فإن الحاكم الفاسد المتهور يعبر عن ضمير جزء من الامة وهو جزء يشبهه ويتناغم معه، والشريحة الظالمة الانانية وحتى لو كانت مجرد اقلية، ستنجح في احيان كثيرة في محاصرة الجماعات الطيبة، بالضبط كما يدخل سائق ارعن الى شارع فرعي مليء بالاوحال فيحاصر عشرة من المارة العاجزين عن ردعه.
لذلك عليك ان لا تستغرب حين تجد الشعب ساخطا لكنه عاجز. وتجده غاضبا لكنه يؤمن بعدم وجود بديل صالح للحاكم المتهور والفاشل. فالسائق الارعن يخطف الانظار حين ترشق انانيته المارة بأوحال الارض والسماء، ويشيع شعورا بأنه الاقوى والاوسع حيلة، وانه يمتلك المبادرة وتصعب هزيمته ويستحيل استبداله.
حين يشبه الحاكم اسوأ محكوميه فإن الإصلاح يصبح مسارا معقدا وصعبا وبطيئا، وتفضل الغالبية من شريحة الأخيار والطيبين ان تنكفئ على نفسها وتعتزل ويخمد صوتها أمام الكرامة المهدورة والحقوق المسلوبة، وتنتظر فرجا بلا تواريخ وحلا بلا ملامح. وهنا يولد عجز الازمان التي تتيح للأكثر أنانية ان يمارس الظلم ويسخر من جموع مظلومة وصامتة قائلا: ابتعدوا عن الطريق واسمحوا لي ان أواصل رشقكم بأوحال الخطأ والفشل والتهور.
حين يتشابه الحاكم والمحكوم
[post-views]
نشر في: 20 نوفمبر, 2012: 08:00 م