"إخلاصاً للملتقى السنوي الثابت في تسالونيكي تنعقد الدورة الـ53 من مهرجانها السينمائي في الفترة ما بين 2 حتى 11 نوفمبر من العام الحالي، مصحوبة برؤية جديدة وبحضور قوي للسينما المستقلة، وكعادته سيدعو المهرجان جمهوره إلى حفلات عروض أفلامه المتعددة الاتجاهات وسيوفر لهم فرصة مقابلة سينمائيين وضيوف كبار يأتون إليه من كل صوب. كما سينظم لهم ندوات وطاولات نقاش مستديرة يشارك فيها متخصصون بالفن السابع، الذي ترعاه مدينة تسالونيكي اليونانية منذ ما يزيد على نصف قرن". هكذا لخص منظمو مهرجان تسالونيكي السينمائي حرصهم وحماستهم على استمرار مهرجانهم رغم الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها بلادهم، وكأنهم بهذه المقدمة الموجزة أرادوا تبديد مخاوف مشروعة من احتمال توقف المهرجان الدولي بعد أن تكرس كواحد من أعرقها وأشدها خصوصية.
نظرة متمعنة على برنامجه يُظهر رغبة المشرفين عليه في الاستمرار والحفاظ على مستوى نوعية جيد طالما حافظوا عليه رغم كل ما يحيط بهم من تهديد نتيجة لوضع سيئ تعيشه البلاد، لهذا واستباقاً لأي تخفيض محتمل في ميزانيته أعلن المهرجان منذ بداية العام الغاء جوائزه المادية، مكتفياً بجوانبها المعنوية. إجراء كهذا يعرف متخذوه إنه سيُستقبل برضا وتسامح لتفهم الجميع أسباب اتخاذه ولكنهم وعلى مستوى النوعية لن يتساهلوا، أو يتعكزوا على الأسباب القوية التي لديهم، كي يتراجعوا عن تقاليد رسخوها عبر عقود، بل على العكس يبدو برنامج الدورة الـ53 أكثر سعة وطموحاً من سابقاته وهذا هو الأهم على مستوى تحقيق النجاح المطلوب لكل مهرجان، وحتى الجوانب الفنية، مع انها تفصيلية، فإن من دُعي الى تسالونيكي من قبل يعرف جيداً إنهم حريصون على سير أدق تفاصيله بسهولة وإتقان يحسدون عليهما. فالمهرجان ميزته الأهم: البساطة والدقة المتناهية. حتى جانبه التجاري المتمثل بسوق "أغورا" لم يتأثر كثيراً وظل يعمل بجد لدعم السينمائيين في كل مكان.
لسوق المهرجان "أغورا" سمعة طيبة كمصدر لدعم النتاج السينمائي على أكثر من مستوى كما أنه مثل مثيلاته يتحول خلال فترة انعقاد المهرجان الى ملتقى تجاري للترويج وعقد الصفقات السينمائية اضافة الى توفيره امكانية عرض أفلام المشاركين فيه على الموزعين والصحفيين. وللسينمائيين العرب سنوياً حصة معقولة منه على مستوى الدعم المالي المقدم لمراحل عدة من إنتاجهم، أو حتى لإتاحته لهم فرصة التعريف بمنجزهم السينمائي.
في الدورة الحالية وكما ورد في البيان الصحفي الخاص بالسوق حصلت بعض مشاريعهم على دعومات مالية، من بينها: "فتاة المصنع" لمحمد خان الذي يمثل عودة له بعد فترة انقطاع، والى جانبه من مصر أيضاً فيلم ايهاب أيوب "69 ميدان المساحة" ومن لبنان مشروع كارلوس شاهين "بستان التفاح". ويدعم سوق "أغورا تقاطع طرق" مشروع المخرج الأردني يحيى عبد الله "أنا، نفسي ومردوخ" ومعه الفيلم الجزائري "الجزائر ليلاً" ليانيس كوسيم.
"آفاق مفتوحة" من أكبر خانات المهرجان وتضم 50 فيلماً، من بينها عروض خاصة بالسينما المستقلة. صاحب تحفة "z" اليوناني الأصل كوستا غافراس انضم إليها بفيلمه الجديد "رأسمال" وعنوانه يشي بصلته بأزمة العالم المالية. وكمراجعة لتاريخ روسيا البيضاء خلال الحقبة النازية وتواطأ ستالين ضدها يقدم سيرجي لوزنيتسا رؤيته لها "في الضباب"، مصحوباً بسمعة واقبال نقدي جيدين. أما بالنسبة للمخرج النمساوي أولريش سيدل الذي احتفى به المهرجان في دورته السابقة قرر هذه المرة عرض جزءين من ثلاثيته الجديدة "جنة" هما؛ الإخلاص والإيمان. ومن السينما المستقلة أُختير أثني عشرة فيلماً بينها: "طفل" للبلجيكي فين تروش و"جمالك لا يعني شيئاً" للنمساوي التركي الأصل حسن تاباك الذي تناول فيه وضع عائلة مقاتل كردي جاءت من جبال تركيا طلباً للجوء في فينا، التي لم تجد راحة فيها، لكثرة ما تعرضت له من اهتزازات شديدة عانى بسببها الصبي فيصل طويلاً واحتاج كي يعيد توازنه الى كتابة قصيدة حب بالألمانية الى صبية يوغسلافية نجح في ايصالها لها لحظة مغادرتها النمسا مع عائلتها الى وطنها بعد رفض طلب لجوئهم. لم يقدم الفيلم جديداً عن أفلام الهجرة إلا في مستوى تناوله للعلاقة الملتبسة بين التركي والكردي في بلد المهجر وكيف يمكن أن تتوحد عبرهما أمة منقسمة خارج حدودها. والموضوع الكردي في السينما التركية المشاركة في الدورة 53 نجده أيضاً في فيلم "خلف التل" الذي عرض في مهرجان أبو ظبي السينمائي الأخير وعالج فيه البير أمين الصراع التركي الكردي عبر حكاية غاية في البساطة تجري أحداثها في منطقة سهول يفصلها تل، لا نرى منه إلا الطرف التركي، أما الطرف الثاني، حيث هناك يتمترس الغامض، فسيبقى يشكل خطراً وهاجساً مقلقاً لعائلة الإقطاعي التركي الذي أخذ قطيعاً من الخراف والماعز من أحد الرعاة “الرحل” وهي الصفة التي يطلقونها على الأكراد، فبالنسبة اليه والى “تركيا” العثمانية لا يمثل هؤلاء سوى مجموعة من القبائل الطارئة لا حق لها في الإقامة فوق أرضه وبالتالي يصبح الاستيلاء على كل ما يملكون حقاً مشاعاً لهم ما دامهم طارئين وعابرين ويسكنون "خلف التل". الى جانبه سنشاهد تحفة الكندي كيم نيجوين "ساحرة الحرب" واستحقت عنه ممثلته الرئيسية راشيل موانزا جائزة أفضل ممثلة في دورة مهرجان برلين الأخيرة بعد أن أدت دوراً رائعاً في فيلم تناول واقع المقاتلين الأطفال في الحروب الأهلية وكيف خسرت الطفلة الأفريقية كل ما عندها؛ من عائلة وقرية بل حتى من البراءة الأولى حين أجبرها فصيل مسلح على الانضمام الى صفوفه وأرغموها في أول خطوة لتدمير الكائن الإنساني داخلها بقتل والديها بنفسها لتتحول بفعلها الى كائن يمارس القتل دون تردد. حكاية "ساحرة الحرب" وهو اللقب الذي أطلقه عليها مقاتلو الوحدة صورت في الكونغو قريباً من سوح المعارك الأهلية الطاحنة التي جرت في هذا البلد وغيره من دول الجوار وراح ضحيتها ألاف من البشر والأبرياء وأنتج نوعاً من المقاتلين الأطفال الذين يصعب وحتى بعد انتهاء الحرب العودة الى الحياة السوية ولهذا هم يموتون أكثر من مرة فإذا نجوا من موت في المعارك فأن موتاً روحياً ينتظرهم حين يعودون الى قراهم، فالساحرة لاحقها الموت ولاحق كل من أحبت حتى طفلها الذي أنجنبه في ظروف غير إنسانية لا ينتظره مستقبلا واعدا فالحروب الأهلية قد حرقت الأخضر واليابس ومعها أرواح أطفال أبرياء.
ثلاث تحايا تقدمها الدورة إلى ثلاثة مخرجين هم؛ الفنلندي أكي كاوريسماكي والإيراني بهمان قوبادي والألماني أندرياس دريسن، ولكل واحد منهم ستقدم باقة من أفلامه مع الحرص على عرض آخر نتاج له، صانعين بهذا ديناميكية تواصل موفقة.
وبمناسبة رحيل ابن أثينا البار المخرج الكبير ثيو أنغلوبولوس عن عالمنا، فأنه أمر متوقع، أن يُحيّ مهرجان يوناني هذا الحدث وحتماً سيكون برنامجه موضع اهتمام من يأتي الى تسالونيكي ليجده حافلاً بعروض تغطي مراحل حياته.
تاريخ سينمائي حافل يتجاوز الأزمات
نشر في: 21 نوفمبر, 2012: 08:00 م