سلام حربة
ما يميز هذا الزمن الجديد أنه زمن العقل وسيادة منطق العلم ،وبسبب هذا العقل فإن الإنسان يعيش ثورة علمية وتكنولوجية هائلة فما كان مستحيلا في الأمس فإنه اليوم وبحكم ممكنات العقل أصبح جائزا وبخدمة الإنسان وطوع بنانه ،فكم من خوارق كان يمارسها الجن والمردة والسعالي في القصص والحكايات التي تسردها جداتنا أصبحت بفضل اكتشافات العقل ظواهر ولوامس طبيعية يتحكم بها الإنسان ويسخرها لحياته في أية لحظة يريد ..العقل جوهرة الإنسان وبه يتميز عن باقي الكائنات ، إنه المصمم الذي غيّر هذا الواقع وانتقل بفضله من حال إلى حال ومن عصر إلى آخر ،إنه صانع التاريخ والناقل للإنسان من الكهوف البدائية إلى آفاق المدنية والرفاهية ، الواقع الجديد المُصاغ بالعقل ساهم هو الآخر في تنمية قدرات العقل الخفية الكامنة واستنهاضها من أجل زجها في ميادين معرفية لم تطأها أقدام تجريب من قبل..العقل إله الزمن الجديد والخالق لأنماط الحياة المتنوعة.. في الغرب ومنذ الثورة الصناعية في القرن الثالث عشر وحتى ما قبله اكتشفوا أن العقل وحده هو خالق المعجزات وهو الصائغ لروح الإنسان من أجل سموها وتطهرها ،من أجل أن تقترب من المطلق ، العقل هناك تحرر من هيمنة التفكير اللاعقلي التي حاولت الكنيسة أن تجعل منه شرطا وأسلوبا في الحياة ، لقد وقف العقل سدا منيعا أمام الهرطقات والبدع الدينية التي أشاعها تجار الدين وأرسلوا إلى الموت والفناء كل من حاول أن يخرج على أوهامها وخرافاتها ،فالموت نصيبك حين تجهر القول إن الأرض كروية أو تبرهن بالعقل أن الإنسان هو المركز والمطلق في هذا الكون.. بفضل العقل تم استنباط رؤى عصرية جديدة للدين ودعم المنطق التحليلي للوصول إلى الله ، العقل هو من فصَل الدين عن السياسة وعزل ما هو ثابت ومقدس عما هو متحول وبراغماتي ،وهو الذي حدد وظائف الدين الروحية والنفسية ومن أعاد صياغة القيم الاجتماعية والأخلاقية ضمن نظام سياسي متكامل يرتكز على بنى اقتصادية رصينة وعلى مؤسسات قانونية ودستورية بحيث تنظر إلى الإنسان كقيمة عليا يجب أن يرفل بالحرية والديمقراطية والحياة الكريمة وجعل الدين عنصراً بناءً وتقويماً للإنسان وليس عنصر هدم وتخريب كما كان يحصل في السابق..
في شرقنا الإسلامي لا يزال العقل فائضا عن الحاجة والقائمون على سُلَطِه الدينية والسياسية يحاولون أن يزيحوا العلم جانباً كونه يتقاطع ، حسب تفكيرهم ، مع ثوابت الدين..ما زال التنجيم والاستخارة وملاحقة المستور أساليب لإدارة الحياة الدينية والدنيوية..إنهم يمزجون بين ما هو واقعي ولا واقعي وبين الحسي والحدسي وبين المعقول واللامعقول ،إنهم ينظرون إلى الواقع على أنه زائف وزائل والشاخص الوحيد الحقيقي هو الإنسان ( المؤمن ) الذي يجب أن يدام إيمانه بكل سبلهم المتاحة وتأجيج طقوسه ومشاعره الوجدانية وجعل العاطفة القلبية وليس العقل طريقا للوصول إلى الله حتى لو اضطرهم الأمر إلى تخريب الواقع وتهديم كل أشكال الحداثة فيه..لقد أقحموا الدين في كل مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والعلمية ،وألبسوا الآيات المقدسة جلبابا تأويليا مهلهلا على مقاسهم يناسب قناعاتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان ، الجهل الذي يرافق الإنسان حين يُسقط العقل من حياته هو الذي يجعل من هذره صنواً للكلام المقدس ، هذا الجهل هو الذي أنزل الله من عليائه بكل جلاله وقداسته وجعل منه بشرا يصوغون الحياة على هواهم وتقلب أمزجتهم..إنها الإزاحة الكاملة لسلطة العقل في إدارة شؤون الحياة وهيمنة للقوى النفسية الانفعالية المتغيرة مع واقع الإنسان وانتقالاته.. في عالمنا الإسلامي يجري تغليب لأنماط التفكير اللاعقلي في صياغة الحياة ، إنها تخريب للواقع وللإنسان وتشويه للدين والأخلاق والقيم والقانون.. لاوجود لدين حقيقي في المجتمعات اللاعقلية بل صور دينية مشوهة بديلة ابتكرها الإنسان وجعل من ذاته الفقيرة صنواً للذات الإلهية الجبارة..إنها دعوة إلى إشاعة لسلطة العقل ومنطق العلم في مجتمعاتنا التي تعصف بها الأزمات حفاظا عليها من التشرذم والتفكك والفناء وحفاظا على الدين الإسلامي الحنيف الذي لا ينمو ويزدهر إلا في بيئة عقلية صحية لأن الله عقل كلي وليس عاطفة زائلة..