TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > العقل والسلطة

العقل والسلطة

نشر في: 26 نوفمبر, 2012: 08:00 م

سلام حربة

ما يميز هذا الزمن الجديد أنه زمن العقل وسيادة منطق العلم ،وبسبب هذا العقل فإن الإنسان يعيش ثورة علمية وتكنولوجية هائلة فما كان مستحيلا في الأمس فإنه اليوم وبحكم ممكنات العقل أصبح جائزا وبخدمة الإنسان وطوع بنانه ،فكم من خوارق كان يمارسها الجن والمردة والسعالي في القصص والحكايات التي تسردها جداتنا أصبحت بفضل اكتشافات العقل ظواهر ولوامس طبيعية يتحكم بها الإنسان ويسخرها لحياته في أية لحظة يريد ..العقل جوهرة الإنسان وبه يتميز عن باقي الكائنات ، إنه المصمم الذي غيّر هذا الواقع وانتقل بفضله من حال إلى حال ومن عصر إلى آخر ،إنه صانع التاريخ والناقل للإنسان من الكهوف البدائية إلى آفاق المدنية والرفاهية ، الواقع الجديد المُصاغ بالعقل ساهم هو الآخر في تنمية قدرات العقل الخفية الكامنة واستنهاضها من أجل زجها في ميادين معرفية لم تطأها أقدام تجريب من قبل..العقل إله الزمن الجديد والخالق لأنماط الحياة المتنوعة.. في الغرب ومنذ الثورة الصناعية في القرن الثالث عشر وحتى ما قبله اكتشفوا أن العقل وحده هو خالق المعجزات وهو الصائغ لروح الإنسان من أجل سموها وتطهرها ،من أجل أن تقترب من المطلق ، العقل هناك تحرر من هيمنة التفكير اللاعقلي التي حاولت الكنيسة أن تجعل منه شرطا وأسلوبا في الحياة ، لقد وقف العقل سدا منيعا أمام الهرطقات والبدع الدينية التي أشاعها تجار الدين وأرسلوا إلى الموت والفناء كل من حاول أن يخرج على أوهامها وخرافاتها ،فالموت نصيبك حين تجهر القول إن الأرض كروية أو تبرهن بالعقل أن الإنسان هو المركز والمطلق في هذا الكون.. بفضل العقل تم استنباط رؤى عصرية جديدة للدين ودعم المنطق التحليلي للوصول إلى الله ، العقل هو من فصَل الدين عن السياسة وعزل ما هو ثابت ومقدس عما هو متحول وبراغماتي ،وهو الذي حدد وظائف الدين الروحية والنفسية ومن أعاد صياغة القيم الاجتماعية والأخلاقية ضمن نظام سياسي متكامل يرتكز على بنى اقتصادية رصينة وعلى مؤسسات قانونية ودستورية بحيث تنظر إلى الإنسان كقيمة عليا يجب أن يرفل بالحرية والديمقراطية والحياة الكريمة وجعل الدين عنصراً بناءً وتقويماً للإنسان وليس عنصر هدم وتخريب كما كان يحصل في السابق..
في شرقنا الإسلامي لا يزال العقل فائضا عن الحاجة والقائمون على سُلَطِه الدينية والسياسية يحاولون أن يزيحوا العلم جانباً كونه يتقاطع ، حسب تفكيرهم ، مع ثوابت الدين..ما زال التنجيم والاستخارة وملاحقة المستور أساليب لإدارة الحياة الدينية والدنيوية..إنهم يمزجون بين ما هو واقعي ولا واقعي وبين الحسي والحدسي وبين المعقول واللامعقول ،إنهم ينظرون إلى الواقع على أنه زائف وزائل والشاخص الوحيد الحقيقي هو الإنسان ( المؤمن ) الذي يجب أن يدام إيمانه بكل سبلهم المتاحة وتأجيج طقوسه ومشاعره الوجدانية وجعل العاطفة القلبية وليس العقل طريقا للوصول إلى الله حتى لو اضطرهم الأمر إلى تخريب الواقع وتهديم كل أشكال الحداثة فيه..لقد أقحموا الدين في كل مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والعلمية ،وألبسوا الآيات المقدسة جلبابا تأويليا مهلهلا على مقاسهم يناسب قناعاتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان ، الجهل الذي يرافق الإنسان حين يُسقط العقل من حياته هو الذي يجعل من هذره صنواً للكلام المقدس ، هذا الجهل هو الذي  أنزل الله من عليائه بكل جلاله وقداسته وجعل منه بشرا يصوغون الحياة على هواهم وتقلب أمزجتهم..إنها الإزاحة الكاملة لسلطة العقل في إدارة شؤون الحياة وهيمنة للقوى النفسية الانفعالية المتغيرة مع واقع الإنسان وانتقالاته.. في عالمنا الإسلامي يجري تغليب لأنماط التفكير اللاعقلي في صياغة الحياة ، إنها تخريب للواقع وللإنسان وتشويه للدين والأخلاق والقيم والقانون.. لاوجود لدين حقيقي في المجتمعات اللاعقلية بل صور دينية مشوهة بديلة ابتكرها الإنسان وجعل من ذاته الفقيرة صنواً للذات الإلهية الجبارة..إنها دعوة إلى إشاعة لسلطة العقل ومنطق العلم في مجتمعاتنا التي تعصف بها الأزمات حفاظا عليها من التشرذم والتفكك والفناء وحفاظا على الدين الإسلامي الحنيف الذي لا ينمو ويزدهر إلا في بيئة عقلية صحية لأن الله عقل كلي وليس عاطفة زائلة.. 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram