بعد أن أنهت الليبرالية الجديدة مراحل هيمنتها، التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي بعولمة أسواق المال العابرة للسيادة، بدأت تطوي اليوم صفحات مبادئها الثلاث التي ارتكز عليها إجماع واشنطن والمتمثلة : بتبني ما يسمى بنموذج الدولة الصغيرة او تقليل دور الدولة في الحياة الاقتصادية وكذلك التحرر من القيود الرقابية على الأسواق والتوجه نحو التجارة الحرة والأسواق المفتوحة ، فضلا عن الانغماس في الخصخصة وتقوية الملكية الشخصية في الإنتاج والثروة . فالأزمة المالية الدولية التي انتهت بأسواق تتعامل بتحركات مالية يومية تقدر بـ 4 تريليون دولار وأسواق مالية تقدر القيمة الرأسمالية لموجوداتها بحوالي 800 تريليون دولار، فإنها تتفوق اسمياً أمام حركة التجارة العالمية التي لا تتعدى 20 تريليون دولار من السلع والخدمات سنوياً وناتج محلي إجمالي عالمي سنوي لا يتعدى هو الآخر 70 تريليون دولار في أفضل الأحوال. وإزاء هذا التناقض بين الاقتصاد الرمزي الذي تمثله سوق رأس المال المالي وتحركات أمواله الساخنة والاقتصاد الحقيقي الذي لا يشكل الا جزءاً يسيراً مقارنة بالسوق الرمزي التي أصابها ركود الأزمة المالية الدولية، فإن العولمة المالية التي ابتدأت بتلك الحرية الواسعة أخذت تتهاوى رويداً رويداً بفقدان خصائص إجماع واشنطن في ظل مأزق الأزمة الاقتصادية التي ابتدأتها انهيار أسواق الولايات المتحدة المالية في نهاية عام 2008 والتي سميت بأزمة الرهن العقاري. لذا لم يعد للأركان الثلاثة لليبرالية الجديدة بموجب إجماع واشنطن ذلك الحماس صوب اقامة سوق مالية وإنتاجية عالمية عابرة للسيادة خالية من الضوابط او القيود كما رسمتها نظرية العولمة منذ ثمانينيات القرن الماضي ، لاسيما بعد ان بلغت كلفة توفير الامن والسلم الاجتماعي الدولي معدلات أخذت لا تتناسب ومجريات تحرير أسواق رأس المال وحرية انتقال الأموال . فكلفة الأمن أمست تتناسب طردياً مع حرية التحركات المالية العابرة للسيادة.
لقد كان للأزمة المالية الدور الفاعل في إعادة الانضباط على أسواق التحويل الخارجي وملاحقة الاموال ولكن تحت ذريعة موضوعية فرضتها مقتضيات الأمن الدولي وهي ظاهرة مكافحة غسل الأموال وأموال الجريمة والإرهاب، والتي منها على سبيل المثال العمل بقانون الامتثال الضريبي الأمريكي الذي يفرض على الدول كشف المصالح المالية للرعايا الأمريكان أينما وجدوا وبخلافه فإن ضريبة بمقدار 30% ستفرض على عوائد أموال الحكومات المودعة في مصارف الولايات المتحدة. ولا يفوتنا تحسس الاتحاد الأوربي تجاه منطقة اليورو من تطور ظاهرة حرية انتقال رؤوس الأموال من مصارف بلدان أطراف منطقة اليورو المأزومة اقتصادياً إلى مصارف المركز الأوربي ولاسيما الألمانية منها .
الفراغ الرأسمالي
يكسر أزمة اليورو
مما يعني أن فراغاً رأسمالياً في أطراف أوربا سيكرس من أزمة اليورو . وبهذا فإن قيود وضوابط وخصائص ضبط تدفقات رأس المال بما فيها التطبيقات الواسعة لمسائل مكافحة غسل الأموال، آخذة هي الأخرى بسعة التفسير ومستوى التحسس الذي أصبح لا يتناسب ومنظور المذهب الليبرالي، ما قد يجعل الليبرالية الجديدة في وضع تنكفئ فيه وتتراجع إلى المراحل والقيود الاقتصادية التي سادت إبان الحربين العالميتين، عندما كانت الحماية التجارية وضوابط التحويل الخارجي على حرية انتقال الأموال في أوجها وفي أعلى صور انغلاقها وتوجيهها قسراً للسير بممرات ليبرالية محددة تتلاءم وانقسام العالم إلى أسواق متناحرة غير متنافسة في تلك الحقب الزمنية الساخنة. ولا يخفى ان الفكر الليبرالي الجديد الذي قاده المفكر الألماني الكسندر روستو في العام 1938 والذي أعطى الأولوية الى ميكانيكية الثمن والمشروع الحر والنظام التنافسي مع دولة قوية نسبياً كانت كلها تأكيد لمبادئ السوق المبني على الحرية الاقتصادية. ولم ننس ما جاء به المفكر الليبرالي العريق (فريدريك هايك) في كتابه دستور الليبرالية وما تبعه من أفكار انتهت بمدرسة شيكاغو في الاقتصاد وعلى رأسها (ميلتون فريدمان) وتناغم معها (نعوم جومسكي) وغيره لتبلور جميعها عودة الليبرالية الجديدة في نهايات القرن العشرين والتي تشهد تراجعاً وانتكاساً ملموساً اليوم وكأنما هي العودة إلى الفكر الليبرالي في قوقعته إبان ثلاثينيات القرن الماضي.
الاندماج بأسواق العالم
فبعيداً عن هذه المقدمة ، لم يرث العراق بعد التغيير الذي شهدته الحياة السياسية في العراق إلا التطلع والالتحام بالليبرالية الجديدة والاندماج بأسواق العالم مالياً أو اقتصادياً. واللافت للنظر، أن العراق استمر طوال عقد من الزمن على التغيير السياسي وهو ما زال مثقلاً بإجراءات الحصار الاقتصادي الذي فرض عليه منذ غزو الكويت في العام 1990 وهو العام الذي دشن فيه العالم ليبراليته المتمثلة بحركة العولمة المالية واندماج الأسواق وبأعلى مستوى أمام تهاوي جدار برلين وانقلاب ليكرملن وانضمام أوربا الشرقية الى منظومة العالم الرأسمالي بيسر وسرعة عاليين لا مثيل لهما في تاريخ اندماج الأسواق في العالم.
ويلحظ على صعيد العراق أن ليبرالية مالية عالية فرضتها التشريعات التي جاءت بها سلطة الائتلاف المؤقت بين العامين 2003 - 2004 حيث حررت سوق المال في العراق وحرر التحويل الخارجي في نظام اقتصادي ما زال احادياً يعتمد على مورد النفط، والذي تأتي تدفقاته الداخلة من العملة الأجنبية من عائدات النفط حصرياً، في حين تتولى السوق توليد حالة من التعايش على الموازنة العامة وتعظيم تراكماتها المالية ومن ثم إجراء التدفقات الخارجة دون مساهمة منها في التدفقات الداخلة من النقد الأجنبي.
تحرير السوق صوب الخارج
وعلى هذا الأساس كان لتحرير السوق العراقية صوب الخارج، لتكون منفذاً سهلاً في تسوية الثروات وإجراء التحويلات لجيلين من المهاجرين العراقيين. الجيل الأول: وهو الجيل الذي ترك البلاد منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتى سقوط النظام السياسي السابق عام 2003، حيث تمكن هذا الجيل من تحويل حقوقه من ملكياته وموروثاته إلى خارج البلاد كلما كان ذلك ممكناً حيث تستقر أسرهم التي هجرت البلاد لأكثر من عقدين من الزمن تحت مختلف الظروف الإنسانية القاسية. أما الجيل الآخر: وهو الجيل الذي ترك البلاد بعد التغيير الذي حدث في العام 2003 وأجرى تصفية على حقوقه وممتلكاته مستفيداً من تلك الليبرالية المالية التي وفرها الوضع الجديد وللجيلين الثاني كما هو للجيل الأول. وبالرغم من ذلك فقد فقدت البلاد عوامل إنتاجها من العمل ورأس المال لتستقر في حواضن اقتصادية خارج البلاد والتي تمثل حقوق تصرفية حسب ما يقال لنحو مليون أسرة في الوقت الحاضر أو اقل، والتي ما زال الكثير منها يتعايش على تحويلات من طرف واحد من داخل البلاد إلى خارجه.
الانفتاح الاقتصادي
وعلى صعيد الانفتاح الاقتصادي فلم يستطع العراق أمام استمرار عزلته بعد 2003 عن أسواق العالم الأول الا الاندماج بالأسواق الإقليمية وتحمل مشكلات الوضع الإقليمي الحالي مع استمرار تحمل البلاد مخلفات الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة والتبدلات الإقليمية وحسب المسرح السياسي الجديد في الشرق الأوسط .
لما تقدم، فقد أصبح من الواضح ان الليبرالية الجديدة العالمية بدأت دخول طور الانغلاق التدريجي وتصعيد ظاهرة مراقبة الأموال عن طريق تعظيم قيود وإجراءات التحويل الخارجي وحركة رؤوس الأموال وتوجهاتها من منطلق مكافحة غسل الأموال والتي أخذت تضيق من اتجاهات العولمة المالية منذ انطلاقها في بداية العقدين الأخيرين من القرن الماضي. في وقت ما زال فيه العراق يواجه مفترق طرق آخر هو: إما الانسجام مع حركة انغلاق الليبرالية الجديدة الآخذة في التصعيد مع تحمل إشكاليات الفصل السابع المفروض عليه أو عد الاستمرار في الشكل الليبرالي الذي وضعت ترتيباته الاقتصادية والمالية منذ عام 2003، كتحصيل حاصل بكونه وسيلة للتخفيف من وطأة القيود الدولية غير المباشرة المفروضة على العراق والتي ما زالت فاعلة حتى اللحظة.
وفي الأحوال كافة إنها حيرة العراق بين الليبرالية الوطنية الجديدة التي فرضت عليه حرية انسياب أمواله نحو الخارج وهو ما يزال يتمتع بقيد الفصل السابع وبين العودة الى مركزية اقتصادية ذات سيطرة عالية على تحركات رأس المال المتدفق نحو الخارج وبما يتلاءم وتوجهات الرأسمالية العالمية وتحولاتها التقييدية الى مرحلة ما بعد الليبرالية الجديدة والتي اخذت تتمحور في ترسيخ حالة الحمائية مجدداً وفرض الانضباط على حركة رؤوس الأموال ضمن مسالك النظام الدولي الجديد أي أنها (مرحلة ما بعد الليبرالية الجديدة) عولمة ما زالت عابرة للأسواق والسيادة ولكنها يجب أن تسير ضمن ممرات ومسالك شديدة الرقابة.