يعيش الاقتصاد العراقي منذ الثمانينات وبعد تغيير النظام في نيسان عام 2003 أزمة مزمنة. فبالرغم من الثروات النفطية الضخمة والوفرات المالية الكبيرة التي يمكن أن تنقل العراق إلى مصاف الدول المتقدمة، فان الاقتصاد العراقي يتعرض الى صدمات ونوبات قوية مما أدى الى زيادة ارتباطه بالسوق الخارجية وتحوله الى قطاع مستورد للسلع الاستهلاكية.
إن أزمة الاقتصاد العراقي تتضح من المؤشرات الآتية:
الخصائص الاقتصادية
يوصف الاقتصاد العراقي بأنه اقتصاد ريعي خدمي أحادي الجانب ويعاني من ضعف شديد، فالصادرات غير النفطية لم تتجاوز 300 مليون دولار في العام 2009. بينما بلغ حجم الاستيراد الخارجي 38،5 مليار دولار وارتفع في العام 2010 إلى 44 مليار دولار، منها خمسة مليارات دولا ر قيمة مستوردات المواد الغذائية. و3.7 مليار دولار مستوردات بعض المشتقات النفطية وبعض السلع الأخرى.
ومنذ عام 1952 ازدادت أهمية القطاع النفطي كممول رئيسي للاقتصاد العراقي. وبسبب الحروب والحصار الدولي تدهورت القدرات الإنتاجية للقطاع النفطي وتقلصت مساهمة قطاعات الصناعة والزراعة في الناتج المحلي الإجمالي وأصبح العراق بلدا مستهلكا ومستوردا لكافة حاجاته السلعية، بعد أن كان بلدا مصدرا للتمور والرز والفاكهة في الخمسينات.
الاقتصاد الريعي
إن الاعتماد شبه المطلق على القطاع النفطي في تمويل الإنفاق الحكومي والموازنة العامة للدولة وضع العراق في صنف الاقتصادات الريعية، وأصبح تطوره وإخفاقه محكوماً باستقرار أسعار النفط العالمية وتقلباتها التي تخضع في النهاية للإرادات الدولية. فالقطاع النفطي يساهم في تكوين 98% من الدخل القومي الإجمالي وفي تمويل أكثر من 95% من الميزانية العامة، ونستنتج من ذلك ان التحسن المنشود في النمو الاقتصادي سيكون مرهونا بزيادة العملات الصعبة التي تحققها الصادرات النفطية، واما التدهور الذي يصيب الواردات النفطية فسوف يؤدي الى زيادة العجز في الموازنة العامة.
وقد أدت الحرب العراقية الإيرانية واحتلال الكويت والحصار الدولي إلى زيادة ديون العراق الخارجية، فبلغت في عام 2003 أكثر من 450 مليار دولار. بين ديون خارجية وتعويضات حرب إضافة إلى تدمير البنى التحتية والمنشآت النفطية وتوقف الإنتاج الزراعي والصناعي وتحول القطاع الخاص الى طبقة من المستغلين والمنتفعين التي استغلت ظروف الحصار للاستغلال والإثراء الفاحش .
إن هيكلة الاقتصاد العراقي إلى اقتصاد حرب وعسكرة المجتمع في الثمانينات والتسعينات أضاف إليه أعباء كبيرة وشوه هيكله وانحدار قدراته الإنتاجية إلى ما يقرب من الصفر. وقد ورث الاقتصاد العراقي بعد سقوط النظام في نيسان 2003 كما كبيرا من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وبسبب انعدام المعالجات الرصينة تحولت إلى عقد مستعصية كالبطالة وارتفاع الأسعار والديون الخارجية وانهيار البنى التحتية وتدهور الخدمات وانتشار الفساد المالي والإداري والتدهور الأمني والسياسي والتعصب القومي والمذهبي. لذا فان عملية الإصلاح الاقتصادي والإداري لمؤسسات الدولة تمثل المهمة الملحة لكي تستطيع الدولة القيام بوظائفها على الصعد المختلفة.
عدم استثمار الأموال الضخمة
إن غياب التخطيط الاقتصادي والإداري وعدم استثمار الأموال الضخمة المتحققة من الصادرات النفطية في مشروعات اقتصادية منتجة أدى إلى نشوء اختلالات كبيرة في التوازنات المطلوبة للعملية الاقتصادية ونشوء اقتصاد مشوه وأحادي الجانب. فحتى عام 2009 لم تتجاوز نسبة مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي 1% ونسبة مساهمة قطاع الزراعة 3%. وهي نسب متدنية جدا. فاعتماد العراق على الخارج في تأمين مستلزمات حياته من الغذاء والدواء والماء والكهرباء وبعض مشتقات النفط و السلع الأخرى ينذر بمخاطر كارثية.
إن الخصائص الظاهرة للاقتصاد العراقي تشير إلى:
1_انهيار البني التحتية: إن البنى التحتية القوية من طرق وجسور ومواصلات ووسائل اتصال وبنوك وطاقة كهربائية وتقنيات متطورة وإدارات شفافة شرط أساسي لحقيق التطور الاقتصادي. وقد أدت حروب النظام المباد والحصار الدولي إلى تدمير شامل لقطاعات الطاقة والكهرباء والماء والنقل وأنظمة الخدمات العامة في الصحة والتعليم والاتصالات وموانئ تصدير النفط ومكائن ضخه، والى توقف خطط التنمية. أما الاحتلال الأجنبي فمن اجل ان يوفر فرص عمل واسعة لشركاته الاحتكارية فقد دمر عن عمد وبشكل ممنهج بقايا البنى التحتية من الجسور والمباني والشوارع وأشاع الفوضى وشجع عمليات السلب والنهب التي تعرضت لها المؤسسات الحكومية وبذلك جعل البلد يدور في دوامة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي ويرزح تحت ثقل الديون الخارجية وتعويضات الحرب البغيضة. و أصبح الاقتصاد العراقي في وضع مقعد.
2- العجز في الميزانية: تعاني الميزانية العامة في العراق منذ عام 1983 وبعد سقوط النظام وحتى الوقت الحاضر من عجز مالي دائم. ويظهر هذا العجز أكثر دقة ووضوح عند مقارنة حجم النفقات العامة مع الواردات المالية للدولة. فالحجم الإجمالي للواردات السنوية لعام 2012 بلغ نحو 78705237500 تريليون دينار، وحجم النفقات العامة لنفس العام بلغ 92980582970 تريليون دينار . وبذلك فان الميزانية العامة تظهر عجزا قدره 14275345470 تريليون دينار. و قد اعتادت الحكومة تغطية هذا العجز بالاقتراض الخارجي الذي يضيف أعباءً خارجية على الميزانية.
إعادة النظر بالموازنة التشغيلية
ونعتقد ان إحدى طرق التصدي لمعالجة هذا العجز الذي يواجه الموازنة العامة هو بإعادة النظر في الموازنة التشغيلية البالغة 68،9% واتخاذ بعض الإجراءات الضرورية منها:
1- تخفيض رواتب الرئاسات الثلاثة بنسبة 40% للرواتب و50% للمنافع الاجتماعية وزيادة مخصصات النفقات الاستثمارية من 31،1% إلى 40% .
2 - تخفيض رواتب أعضاء البرلمان بنسبة 20% والدرجات الخاصة بنسبة 10% .
وعليه فالموازنة العامة تتعرض لضغوط صندوق النقد الدولي ولهذا فلم تعر اهتماما ملموسا للفئات والشرائح الاجتماعية الفقيرة ولا لإعادة الحياة إلى المؤسسات الإنتاجية المتوقفة. وان ذلك سوف يفضي إلى تزايد أعداد البطالة وانتشار الفقر والتسول وازدياد ظواهر التفسخ والانحراف .
وقد كانت الحكومة السابقة تغطي عجز الموازنة في فترة الحصار بإصدار كميات كبيرة من النقد المكشوف مما أوقع الاقتصاد في طاحونة الركود والتضخم الجامح .
3- ظاهرة البطالة : تعبر ظاهرة البطالة عن الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الاقتصاد العراقي وعدم قدرته على استيعاب القوى العاملة والكفاءات العلمية والمهنية المتاحة. ووفقا لبيانات وزارة التخطيط فقد ارتفعت نسبة البطالة من حجم القوى العاملة من 30% في عام 2002 الى 50% في العام 2003 . وتعتبر نسبة البطالة بالعراق عالية جدا مقارنة بالنسب المحددة دوليا وهي 9%.
ومن الأسباب التي ادت إلى تفاقم هذه الظاهرة تسريح قطاعات الجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي وأفراد بعض مؤسسات القطاع الخاص التي توقفت عن العمل.
فاتساع وتفاقم ظاهرة البطالة ينذران بتداعيات اقتصادية واجتماعية خطرة. ويصبح من اللازم على الدولة أن تنتهج سياسة إستراتيجية قادرة على احتواء هذه الظاهرة والتخفيف من المعاناة الاقتصادية والاجتماعية.
والجدول الآتي يوضح نسب البطالة في المحافظات العراقية لعام 2006.
المحافظة النسبة% المحافظة النسبة%
بغداد 16.80 نينوى 18.21
ديالى 17.81 كربلاء 17.52
النجف 23.73 واسط 7.25
القادسية 26.03 ذي قار 33.24
صلاح الدين 20.14 ميسان 21.78
التأميم 17.91 بابل 10.97
المثنى 27.75 البصرة 7.9
العراق 19.07
المصدر: وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي – الجهاز المركزي للإحصاء – نتائج مسح التشغيل والبطالة 2006.
ويظهر الجدول أن محافظة ذي قار تحتل النسب الأعلى في عدد العاطلين عن العمل 33،24% وتأتي المثنى بالدرجة الثانية 27،75% وبعدها القادسية 26.03% . كما يظهر الجدول اقل نسب البطالة كانت في محافظة البصرة 7،9% وفي اسط 7،25%.
4- اختلال الميزان التجاري:- إن التشوه والاختلال في الميزان التجاري يظهر مدى الاعتماد على العائدات النفطية في تغطية الاحتياجات السلعية من الخارج. وهو مؤشر على اختلال هيكل الإنتاج وعجز القطاعات الوطنية في توفير احتياجات السوق المحلية من المنتجات السلعية.
فالاختلال الهيكلي في الاقتصاد العراقي، هو نتيجة لسياسات الدولة المعتمدة اعتمادا كليا على الصادرات النفطية وعدم توجهها لإقامة اقتصاد متنوع في الصناعة والزراعة والقطاعات الأخرى التي تخدم التطور الاقتصادي.
5- التدهور الصناعي والزراعي: يشكل القطاع الصناعي والزراعي عصب الاقتصاد القومي للعديد من دول العالم المتقدمة، فالبلدان الصناعية تعتمد على القطاع الصناعي لتشغيل الأيدي العاملة وجني الضرائب لخزينة الدولة وتحريك الأنشطة الاقتصادية الأخرى كما هو في الولايات المتحدة واليابان وألمانيا ودول أخرى.
وهناك العديد من البلدان التي تعتمد اقتصادياتها على الإنتاج الزراعي والحيواني مثل الدانمارك وسويسرا واستراليا وغيرها . ويتسم الاقتصاد العراقي بالضعف الشديد في إنتاجية هذين القطاعين ، حيث لا توجد في العراق مؤسسات إنتاجية ضخمة تستخدم التقنيات الإنتاجية الحديثة في مجال الصناعات الثقيلة أو الصناعات المتقدمة، وقد عانى هذا القطاع كباقي القطاعات الأخرى من الإهمال الكبير والتقادم مما أدى الى تردي مستوياته الإنتاجية ونوعيته بصورة واضحة منذ فترة التسعينيات.
وتشير بعض الدراسات الى ان اكثر من 85% من المؤسسات الإنتاجية في العراق تعاني من مشاكل في تقنيات الإنتاج وتوفر المواد الأولية وانخفاض كفاءة الخطوط الإنتاجية وبالتالي انخفاض مستوى الإنتاج ونوعيته .
وكما هو حال القطاع الصناعي، فان القطاع الزراعي شهد هو الآخر تراجعا خطيرا في مستويات الإنتاج. فبرغم الأراضي القابلة للاستغلال التي تزيد على 48 مليون دونم، إلا انه لم يستغل منها سوى 12.3 مليون دونم . ولهذا نجد أن مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي متواضعة جدا .
الديون الخارجية
6_قدرت الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي المديونية الخارجية للعراق التي خلفها النظام المباد بين عام 1983 - 1991 بنحو 68 مليار دولار وأكثر من 128 مليار دولار في عام 2003. فالتضخم في مديونية العراق الخارجية هو بسبب استجداء النظام للمزيد من القروض الخارجية وبسبب تراكم خدمات الدين الخارجي التي توقف النظام عن دفعها للجهات الدولية الدائنة والمقدرة بأكثر من 50 مليار دولار. أما تعويضات الحرب فتقدر بنحو 320 مليار دولار.
وقد استغلت الجهات الدولية الدائنة ووكيل مصالحها صندوق النقد الدولي مشكلة الديون الخارجية وتعويضات الحرب الضخمة التي فرضت على النظام السابق للضغط والتدخل في شؤون العراق الداخلية لاستنزاف موارده المالية وثرواته النفطية وفرض المزيد من الشروط المذلة عليه.
7- التبعية الاقتصادية: تعني التبعية ارتباط الاقتصاد المحلي بالدول الأجنبية وتتضح التبعية في الاقتصاد العراقي من اعتماده الكلي على البلدان الأجنبية في تسويق منتجاته النفطية واستيراد احتياجاته السلعية من نفس الدول التي تستورد النفط ومن بعض الدول الأخرى المرتبطة بها. ونتيجة لذلك فالاقتصاد العراقي يتأثر بالأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية التي تتعرض لها البلدان الرأسمالية، ومن نتائج التبعية للخارج تأثر الاقتصاد العراقي بتقلبات أسعار النفط التي تقررها السياسات الدولية. وبالتالي فالتبعية تعبر عن حالة التخلف التي يعيشها الاقتصاد العراقي واعتماده على قطاع النفط وخضوعه للسياسات الدولية مما افقده بعض الاستقلالية في سياساته الاقتصادية. والاقتصاد العراقي بسبب طبيعته الريعية وارتباطه الوثيق بالرأسمالية العالمية تعمقت تبعيته للخارج، فحجم استيراد العراق من البلدان الرأسمالية الغربية حتى عام 1988، بلغ 87% ومن المنظومة الاشتراكية السابقة 6% ومن البلدان النامية 7% . وبعد تغيير النظام عام 2003 انفتح العراق على العالم الخارجي وتعززت تبعيته الاقتصادية والمالية الكاملة للبلدان الرأسمالية.
8- تخلف القوى الإنتاجية: وهو تخلف عميق ناتج عن علاقات الإنتاج الرأسمالية والعلاقات شبه الإقطاعية السائدة فيه والاعتماد شبه الكلي على القطاع النفطي في تكوين الدخل القومي الإجمالي. وبالرغم من القوانين التي أصدرتها الحكومات السابقة كقانون الإصلاح الزراعي وتأميم النفط والتوسع في القطاع العام إلا أن هذه الإجراءات لم تنجز عملية التغيير الجذرية في علاقات الإنتاج. فالتوجه الاقتصادي والسياسي بعد عام 2003 أصبح محكوما بالأيديولوجية الرأسمالية واقتصاد السوق الحر الذي يوفر الأرضية الخصبة للشركات الاحتكارية ان تهيمن على التجارة والصناعة وكافة القطاعات الحيوية الأخرى ويشرعن لنهب خيرات العراق وموارده المالية وإفقار أكثرية فئات الشعب التي تعاني اصلا من الفقر وارتفاع الأسعار ومن ازمة سكن وخدمات مستعصية .
9- فشل السياسة الاقتصادية: منذ فترة السبعينات وحتى الوقت الحاضر وبالرغم من ارتفاع اسعار النفط العالمية من 21 دولاراً للبرميل في السبعينات إلى أكثر من 120 دولاراً للبرميل في عام 2012 . وبلوغ الواردات النفطية أكثر من 121 مليار دولار في عام 2011 . فلم تستطع الحكومات المتعاقبة تحقيق اقتصاد إنتاجي وتصديري يغطي الحاجات المتنامية للسوق العراقية ويعوض عن الاستيراد الخارجي الذي يستنزف مليارات الدولارات، وينهي التبعية الاقتصادية للخارج ويحول العراق إلى بلد مصدر للسلع بدلا من أن يكون مستوردا لها.
فالإنفاق الحكومي الضخم على قطاعات الجيش والشرطة وغيرها من الأجهزة القمعية يبتلع نسبة كبيرة من الموازنة العامة على حساب الإنفاق الاستثماري لقطاعات مهمة وأساسية كقطاع الزراعة والصناعة وبقية القطاعات المكملة للنشاط الاقتصادي وهو ما يؤثر سلبا على تطور الاقتصاد ونهضته ونموه في المديات البعيدة والقريبة.