يُتهم الكرد من حكومة بغداد، ومن جهات عربية وتركمانية، بتطلعات توسعية. والكرد لا يخفون نظرتهم الى كركوك خاصة بوصفها محافظة كردستانية. إن عمر قضية كركوك من عمر الدولة العراقية. فقد ظل اعتبار "عروبة" كركوك من ثوابت الدولة العراقية المركزية. كما لم تتغير النظرة الكردية اليها.
وعقيدة كردستانية كركوك أو عروبتها مثيرة للعواطف، ومؤججة للمشاعر لدى الجانبين العربي والتركماني من جهة والكردي من الجهة الأخرى. وهي لذلك قابلة للإستثمار السياسي من الجانبين. فكلاهما يمكن أن يحشد التأييد، ويجمع الأنصار، من خلال "التصلب" في عقيدته. وهذا الاستثمار، سواء لموضوع كركوك، أو المناطق المتنازع عليها، يمكن أن يكون مفيدا في مواسم الانتخابات. ولكنه يعقِّد الحل السياسي للقضية، أكثر مما هي معقدة.
ولم يجرب الجانبان قبل 2003 صيغة التفاوض الجدية على مستقبل مناطق النزاع أو "المناطق المختلطة"حسب المصطلح الحكومي الجديد لها. والمحاولة الجادة الوحيدة التي جرت لتجسير الفجوة الهائلة بين النظرتين تمثلت بالمادة 140 في الدستور، التي تنص على الحل بثلاث خطوات متتابعة: تطبيع أوضاع المدينة، احصاء سكاني ثم الإستفتاء.
وقد عملت لجان وحققت اخرى في مسألة "التطبيع"، ثم تعثرت ولم تخلص منها الى نتيجة لتبدأ الخطوة التالية. والواقع أن هذه القضية هي الأكبر التي واجهتها "الدولة الاتحادية" بعد 2003. ولما كانت" العملية السياسية" قد عجزت عن الوصول الى صيغة حكم مقبولة بين أطرافها، فقد كان من الطبيعي أن تفقد القدرة على حل هذه القضية. فالإتفاق على صيغة حكم بين أطراف "العملية السياسية" من شأنه توفير عامل الثقة بينها، والوصول الى "استقرار سياسي" يسمح بالمضي قدما في حلول لقضية "المناطق المختلطة".
وهذا وضع سيء ولكن الأسوأ منه هو زج الجيش في هذه القضية. بل إنه خارج المعقول. فالجيش لا ينزل الى ساحة السياسة الا بعد أن ينعدم المجال أمام وجود هذه الساحة، وتقوم بدلا منها "ساحة العرضات". في حين أن "العملية السياسية" لم تعلن افلاسها بعد. لقد وصلت الى طريق مسدود. ولكنها مازالت موجودة بجميع أطرافها على هذا الطريق. وحتى مع فرض نهاية هذه العملية فإن تاريخ الدولة العراقية غني بالشواهد على فشل القوة في حل المشاكل بين حكومات بغداد وبين الشعب الكردي وقواه السياسية.
والحال فإن الأزمة التي أثارها تشكيل قوات دجلة، ومن ثم تحركات هذه القوات من دون تنسيق مع حكومة الاقليم، ينبغي أن توجه الرأي العام العراقي الى قضية أهم، وهي ليست ضرورة الامتناع عن زج الجيش في القضايا السياسية فحسب، وانما اخراجه من مدن العراق كافة، ونقله الى الوضع الطبيعي والشرعي لكل جيوش العالم.
إن عسكرة المدن مؤشر خطير على الافلاس الأخلاقي للدول. فهي تعني في أفضل الأحوال فقدان الثقة بين السلطة والشعب، وفي أسوئها تعني وضع الجيش، المكلف حماية البلاد، في مواجهة مع أهل البلاد. ولم يعد "الارهاب" مبررا كافيا لعسكرة المدن. فقد أثبتت التجارب، بما فيها الأميركية، ان آخر مهمة يمكن لأي جيش النجاح فيها هي محاربة الإرهاب. إن انهاء عسكرة المدن "قضية" حقيقية، بمعنى أنها مصلحة حيوية للشعب العراقي. وليست مصطنعة وضارة وخطيرة، شأن زج الجيش والبيشمركة في نزاع سياسي.
الجيش والبيشمركة
[post-views]
نشر في: 27 نوفمبر, 2012: 08:00 م