اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > توطين المقدس

توطين المقدس

نشر في: 27 نوفمبر, 2012: 08:00 م

الكثير من الإيرانيين ينظرون إلى العرب بدونية، ويتعاملون معهم بتعال مهين، كثير منهم يعتقدون أن هذه الأمة "الصحراوية" لا تستحق التقدير. هذه النظرة يعرفها العربي الذي يحتك بهم، ويشرحها أبي من خلال سرده قصة جدي "ضمد" الذي اضطر إلى الذهاب لإحدى المدن الإيرانية، ما دفعه لتجرع غصة ارتداء زي الأفندية، متنازلاً عن زيه العربي التقليدي، فقط ليتقي استهزاء الإيرانيين بالزي العربي. أخمن أن هذه الحادثة وقعت في نهاية القرن التاسع عشر، وهي تحكي قصة اختلال قديم وتكشف مقدار الضغط الذي تعرض له رجل ريفي جنوبي، إلى درجة اضطرته للتخلي عن زيه التقليدي، الذي نعرف جميعاً، مدى ارتباطه بالشرف والغيرة والعزة وما إلى ذلك.
ما يثيرني بهذه القصة هو موقع النبي محمد من هذه النظرة الدونية، إذ من غير المعقول أن الإيراني الذي يحتقر العربي، يستحضر لحظة الاحتقار الهوية العربية لنبيه المقدس. ما يعني أنه يقوم بعملية "تعمية" على هذه الهوية، بمعنى أن عربية النبي تعاني من تشويش يساعد على تغييبها من الذاكرة اليومية، لدى الإيرانيين، ليتمكنوا من تفريغ شحناتهم العاطفية المتعلقة بثقافة وشخصية العربي، دون المساس بالمقدس. عملية التعمية هذه تقوم بها معظم الثقافات التي تضطر لتقديس شخصية لا تنتمي لعرقها أو لثقافتها. وتتأكد عملية التعمية كلما انتمى المقدس لثقافة عدوة أو غير مريحة. هذا ما يقوم به شيعة العراق بالنسبة لأئمتهم، بالذات لمن ولد في المدينة المنورة منهم، وامضى فيها حياته. فهؤلاء الأئمة سعوديون ولا ينتمون إلى الأرض العراقية إلا بسبب ظروف طارئة تسببت بموتهم عليها. لكن العراقيون لا يستحضرون جنسية أئمتهم لحظة تقديسهم، لوجود عداء طائفي/ تاريخي بينهم وبين السعوديين. الموروث الشيعي يحاول أن يغفل كل ما يتعلق بهذه الهوية من تراثه الديني، وأنا شخصياً لم أنتبه لهوية الأئمة إلا في مراحل متقدمة من عمري، ومع ذلك شكل هذا الانتباه ما يشبه الصدمة، صدمتني حقيقة أن الأئمة الذين أقدسهم سعوديون بالولادة والانتماء. وربما لهذا السبب يندر وجود رمز للنبي محمد في طقوس الشيعة، فهو سعودي في ولادته وحياته ومماته، ولا يمكن إلغاء انتمائه، لكن مع الإمام علي يمكن ذلك، وإذا كان هذا الإمام قد عاش على تلك الأرض عشرات السنين، فقد مات على هذه الأرض منذ أكثر من ألف سنة، وهذا ما سهل من عملية "تعريقه" و"تعريق" الإمام الحسين.
هذه الآلية أيضاً نجد تجليها الأبرز لدى الشعوب المسيحية الغربية، فهي الأخرى تعاني من هذه العقدة، أقصد عقدة احتقار الثقافة أو البيئة التي ولد فيها المقدس، وهي هنا الثقافة العربية/ الشرقية، ولهذا السبب نجد بأن صورة المسيح في الأيقونات الدينية، بملامح غربية. الثقافة الغربية التي تحتقر العرب، تحاول أن تنقذ المسيح من ملامحه العربية، فَتُعيره شعرها الأشقر وعيونها الملونة. ولو كانت هذه الثقافة منصفة، أو بريئة في تعاملها مع موروثها المقدس، لاختارت لصورة هذا النبي ملامح عربية/ فلسطينية. لكن التذكير بفلسطينية يسوع المسيح، يمكن أن يؤدي إلى كارثة ثقافية لدى الحضارة الغربية. كما أن التذكير بـ"سعودية" الأئمة، يشعر الكثير من العراقيين، بالإحباط.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. مرتضى السعد

    تحياتي اخ سعدون ارى ان احكامك شيئا فشيئا تتجه نحو الجانب الانفعالي بالواقع او قل بجزء من الواقع الذي تراه انت و تتغافل عن جوانب و زوايا كثيره يمكن بل ستكمل لك الصوره بالتاكيد

  2. شاكوش

    مقال جميل. لدي ملاحظة، النبي محمد ليس سعوديا، هو حجازي فمصطلح سعودي مصطلح جديد ظهر عقب سيطرة آل سعود على مقاليد الحكم في شبة الجزيرة العربية. ولكن هذا لا يقلل من فكرة المقال، فهو يبقى من منطقة جغرافية تقع داخل ما يطلق عليه المملكة السعودية.

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram