كنت، مثل كثيرين غيري، حين أعجب بكاتب أو شاعر أو فنان، خاصة من العراقيين، أظل أتمنى لقاءه. وفعلا تعرفت على كثير منهم. لكني كنت اندم بعد اكتشاف أن ما يكتبونه أو يتحدثون به مغاير تماما لسلوكهم. كم تمنيت أن أظل مستمتعا بنتاجاتهم مثلما كنت أفعل قبل أن أتعرف عليهم أو أعاشرهم. طبعا لا أقصد الجميع، بل نسبة ليست قليلة منهم. مواقف كثيرة شهدتها أفقدتني متعة الثقة والاستمتاع بما يكتبون. وسبب لي ذلك عزوفا عن متابعة أسماء لها علاقة بالثقافة والأدب والفن.
أما التعرف على من أصبحوا سياسيين، في ما بعد، فقد سبب لي شعورا بالقرف. شخصيات فرضت عليّ معرفتها أيام المنفى. أيام قد تجبر الإنسان على الاختلاط بنوع من البشر هم النكد بعينه. نجارون وحدادون وسواق تاكسيات (ميني كاب) وبقالون وفيترجية وقانونيون وأساتذة وعساكر وحتى رجال دين. فيهم من يجيد تمثيل دور "المعوّق" ليحصل على المساعدات التي تخصصها الدول الغربية للمعوقين. وفيهم من يحصل على لجوء في بلد أوروبي، ثم يسافر بوثيقة اللجوء إلى بلد أوروبي آخر. وهناك يخفي أوراقه ويقدم لجوءا باسم جديد من أجل سرقة المساعدات من البلدين. وفيهم واحد يعرفه عراقيو لندن حق المعرفة كان يعمل بقالا ويجيد تزوير تاريخ انتهاء المواد الغذائية (اكسباير ديت). هؤلاء ومثلهم كثيرون، يديرون اليوم مؤسسات حكومية وتشريعية وأمنية وإعلامية وثقافية. يتحدثون على الشاشات عن الوطنية والشرف والإخلاص، وهم ينهبون العراق مثلما نهبوا دولا كثيرة غيره.
هذه الحالة التي انتابتني منذ أعوام، وحسبتها نفسية، اضطرتني لأن أسأل صديقا نفسانيا عراقيا أثق بقدراته. سألته إن كان ما أعانيه أمرا طبيعيا ينتاب اغلب الناس أم انه حالة مرضية؟ سألني: وما هي المشكلة بالضبط؟ صرت لا أطيق سماعهم أو رؤية وجوههم ولو لدقيقة واحدة. ولماذا تهتم بأمرهم إذن؟ كيف لا أهتم وأنا أرى بلدي يتراجع ويعمه الخراب من طل صوب يا دكتور، وها أنت ترى وتشم رائحة خيسة الفساد تهب من كل ركن فيه. أين وكيف أراها أو أشمها؟ ألا تتابع الأخبار؟ طبعا لا. ظننته حسبني أتحدث عن الأخبار العامة فقلت له: إني أقصد أخبار العراق. سكت قليلا ثم سألني: ألست تحمل جوازا بريطانيا؟ نعم ومنذ عشرين عاما. لماذا إذن تشغل نفسك بالعراق؟ وهل لي غير أن أنشغل به. طبعا يمكنك ذلك. كيف؟ انس يا أخي، وعش حياتك بصفاء بال. احترت في جوابه ولم أجد غير الصمت. باغتني: ها شتكول؟ عذرا لا أستطيع، وليتني أتعلم كيف أكون مثلك، ويا ليتني ما عرفتهم.
ليتني ما عرفتهم
[post-views]
نشر في: 28 نوفمبر, 2012: 08:00 م
جميع التعليقات 4
Ankido
نعم وللاسف هولاء المنافقين واللصوص هم من يقودون أغلب مؤسسات الدولة في عهد مابعد العفالقة عهد أصحاب الدرجات الخاصة تكارتت العراق الجدد. لذلك فان بسطال الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم أبو الفقراء رمز النزاهة والعدالة والوطنية هو أشرف من عمائمهم.
كاظم الأسدي
رائع وصادق في مشاعرك التي يشاركك إياها العديد ممن لايمتلكون جواز حتى عراقيا لليوم( فثمنه بات أربع ورقات اليوم)؟ وإسمح لي بالقول ... إذا كنت قد شممت الخيسة عن بعد فكيف بمن عشق بلاده عن قرب وفرض عليه تقبيلها والمعاشرة صباح مساء !!
احمد قلاتوبزاني
هذه هي الحقيقة يلاحظها الجميع ، واذا حدثت المعني بها ضحك عليك وسرد المزيد من حكايات (احكي عدل واقعد اعوج ) ،هذه الحالة يا أستاذنا الصحفي صاحب الجنسيتين العراقية (ال للحفظ )لانها لا تغني عن حاجة والبريطانية (ال للعرض والعمل به ) لانها لها راعيها ، هذه ا
جلال
الشعب كما هو فى الزمن السابق يعيش فى خانتين الاولى خانة العزلة التى يعيش بها المثقف والخانة الاخرى يعيش بها الناعقون ولا اظن ان الحالة ستزول فى يوم ما انها لصق الانسان هنا وانى احسدك لانك تستطيع ان تتنفس حين تريد وان تشتم الشيطان حتى لو كنت فى مكتبه