هيرتا مولر الروائية و الشاعرة والقاصة و كاتبة المقال و المترجمة و الحائزة على جائزة نوبل و التي قالت إنها تكتب عن الدكتاتورية لأنها لم تعرف في حياتها شيئا آخر ،لذلك تسلط الضوء على قضية الحرية في المقام الأول . عندما تلقاها و تراها هكذا صغيرة و ناعمة ، تخاف أن تضغط على كفها أثناء المصافحة ،لكن سرعان ما تثبت لك أن هذا الانطباع مضلل و غير حقيقي ،فتحت السطح الظاهر قوة مذهلة ، القوة التي تحولها هيرتا مولر في كتبها الى لغة ،هي ترسم بالكلمات أكثر من أي كاتب آخر ، تمزج الشعر بالنثر بطريقة يندر أن تراها عند غيرها من الكتاب.
تم منحها جائزة نوبل عام 2009عن روايتها ( أرجوحة النفس ) " ترجمها وحيد نادر الى العربية و صدرت عن مشروع كلمة للترجمة في أبو ظبي " ، لقد وصف أسلوبها في هذه الرواية بأنه تنفس مذهل مكتوب بلغة بليغة ، ، تدور أحداث الرواية في معسكر اعتقال أثناء الحرب العالمية الثانية ، موضوعها يتناول ترحيل و طرد المواطنين الرومانيين الذين لا ذنب لهم إلا كونهم من أصل ألماني ، لهذا عوملوا بوحشية كما لو أنهم السبب عن جرائم هتلر ،هذا الحدث لعب دورا كبيرا في حياة السيدة مولر .
اتفقت معها على اللقاء في كافيتيريا قريبة من سكنها لننجز فيه هذا الحوار، في هذا المكان رشفت السيدة مولر قهوتها و تأسفت لعدم السماح بالتدخين في هذه الكافيتيريا ، قلت :
ــ في روايتك " أرجوحة النّفس " اعتمدت على الكثير من الأحداث الواقعية ، من أين لك الحصول على وقائعها ؟
مولر : تم ترحيل والدتي الى معسكر للاعتقال مثل كل من هم في جيلها ، لقد استمعت أيام ما كنت طفلة الى كل ما دار بين الناس حولي ، و فهمت من هو المتسبب بكل تلك الجرائم،لقد أشغلني هذا الموضوع و لم يغب عني يوما .كذلك التقيت مع بعض من نجوا من موت محتم ، لكن قبل كل شيء تعاونت مع الشاعر "باستيور"الذي كان في ذلك المعسكر يومذاك و أحاديثنا شكلت الإطار العام لبناء الرواية ،بداية تصورت أنه لا يستطيع أن يضيّع وقته معي باعتباره شاعرا عظيما و مثله قد لا يعطي الوقت الكافي لمثل هذه الأشياء ،و بعد ثلاثة أيام من لقاءنا الأول زرت باستيور و اكتشفت انه يملك جميع التفصيلات التي غابت عني ، ذاكرته تعتمد أساسا على التفاصيل ،و قد أجاب حينها على جميع أسئلتي و في كثير من الإدراك الذاتي ، كان هو بالفعل مرآة ذاك المعسكر التي تنعكس فيها جميع ما يدور من احداث .
سؤال : هل انتهى التعاون بينكما عند هذا الحد ؟
مولر :لا ، في نهاية لقائنا ذاك أبدى استعداده للذهاب معي الى أوكرايينا ، حيث كان المعسكر هناك لآخذ فكرة شاملة عما حدثني فيه.
سؤال : و ذهبتما معا الى هناك ؟
مولر :نعم ، كنت أخشى عليه من أن ينهار و هو يقف في نفس المكان الذي مورس بحقه أبشع أنواع الإهانة و القهر ، لكن حدث العكس ،كان منشرح النفس و هو يشرح لي، لم يحدث أن تكلم معي سابقا هكذا مباشرة حول الفترة التي أمضاها في المعسكر ، كان منفتحا معي و صريحا و بشكل خاص عندما تحدث عن أحلامه الدائمة و المتكررة . في تلك الليلة كتمت بكائي في سري لئلا يراه فما أدلى به صعقني .
سؤال : هل الشاب ليوبولد آوبيرك بطل الرواية هو بشكل ما على غرار أوسكار باستيور؟
قالت و قد تكسرت نبرات صوتها : باستيور هو ليس فقط شاعرا عظيما فقط ، بل هو شخص رائع فوق ما يتصوره المرء .
و أمسكت كوب القهوة بقوة وهي تتابع :انتهى التعاون المشترك بيننا بعد النهاية المفجعة لموت باستيور ،هذا صعب للغاية .
و حاولت أن تمنع دموعها من النزول ، تابعت :بعد تسعة أشهر من موته استطعت بكثير من الاندفاع الذاتي أن أكتب بشكل متواصل لمدة ثلاثة أرباع السنة كنوع من الالتزام تجاهه ، لقد حزنت كثيرا على هذه الفقدان ،و هو ما أعطاني القوة لأن أواصل دون كلل ،لأنجز الرواية و أهديها له ، هذا من واجبي .
سؤال :لكي تنجزي مشروعك الروائي ،هل كنت تسحبين الخيط من البكرة التي كانت معه الى النهاية ؟
مولر : بالإمكان قول ذلك .
بعد حصولها على جائزة نوبل تصدرت ( أرجوحة النَفَس ) قائمة المبيعات ، فلم يصبح الشاعر باستيور صديقا حميما لهيرتا مولر وحدها ، بل تحول الى صديق حميم للملايين من قراء الرواية هذه الذين شعروا بمحنته و قدره التعيس بعدما اطلعوا على ما جرى لبطل الرواية في معسكر الاعتقال الروسي .
سؤال : هل يمكن أن نعتبر الرواية هذه شهادة كتبت للتاريخ ؟
مولر :أنا لا أكتب للتاريخ ،و لا أكتب تقارير شهود عيان رغم أني اعتمدت عليها ، أنا أكتب أدباً و أنا مهووسة بما أفعله ، هذه هي مشكلتي .
سؤال : في سيرتك الذاتية نقرأ أنك عملت مترجمة عن الألمانية في أحد المصانع أيام ما كنت في رومانيا ؟
مولر : نعم ،عملت لفترة قصيرة وعندما طلب مني أن أكتب تقارير سرية إلى جهاز الأمن السري " سيكورتيا "عما يحدث في المصنع أو ما يدور بين العمال من أحاديث ، رفضت وكان مصيري أن فقدت تلك الوظيفة و تعرضت للتهديد و الضرب و لعمليات استجواب لا نهاية لها ، كنت حينها لا أستطيع أن أستوعب ما يجري بعدما رميت الى الشارع ، مع ذلك لم أخضع لذلك ، لا أستطيع أن أكون إنسانا آخر متصالحا مع النظام ، و من هذا الزخم في المواقف تكونت كتاباتي .
سؤال : في روايتك " كان الثعلب هو الصياد "كتبت عن فترة تاريخية قاسية في رومانيا أيام حكم شاوسسكو ؟( ترجم هذه الرواية الى العربية د. خليل الشيخ و صدرت عن مشروع كلمة للترجمة في أبو ظبي ).
مولر :لقد دفع المواطن الروماني ثمنا باهظا أيام حكم الدكتاتور ، لقد حاولت شخصيات الرواية أن تتكيف مع ذلك الوضع المرير لكنها عجزت ، لا لأن التكيف هذا صعب بل لأن ذلك الواقع القاسي كان من القوة بحيث لا يدع الشخصيات و شأنها .
سؤال : ألم يعطك الحنين للوطن الأم قوة ساعدتك في إنجاز" أرجوحة النفس "؟
مولر :في البداية كان الحنين للوطن نصيرا لي لوقت طويل ، لكن الآن ليس عندي احد هناك ، لقد اضطررت للأسباب التي ذكرتها لمغادرة رومانيا عام 1987 الى المانيا الاتحادية ، مر وقت طويل ، لا أحد هناك يسأل عني ليستفز في داخلي هذا الحنين .
أخذت آخر جرعة من قهوتها قبل أن نغادر الكافيتيريا و عند باب منزلها و قفت و أخذت سيجارة ، مر بعض الناس و ألقوا عليها التحية .
سؤال: هل الناس مهمون بالنسبة لك؟
مولر : بدون العلاقات الاجتماعية لا أستطيع الكتابة ، أنا بحاجة للحياة من حولي و هذا ما يعمل لي توازناً .
* المقابلة منشورة في مجلة " بورسن بلات " مجلة الناشرين الألمان ،
أجرتها : ايرينا بينال