فساد شريحة المثقفين ورجال الدين أخطر من فساد الطبقة السياسية. فالأول يتعلق بالحاضر والمستقبل. في حين أن الثاني يخص الحاضر اكثر من المستقبل. فاذا سقطت سياسة فاسدة، أو نظام حكم فاسد، وورثه حكم نظيف، فإن اصلاح ما أفسده سلفه يسير. ولكن الطامة ستكون كبرى اذا فسدت شريحة المثقفين ورجال الدين. فاذا حدث ذلك في مجتمع فانه سيعني فساد جميع افراد فئاته، المؤثر وغير المؤثر فيهم، القوي بجيبه، أو بنفوذه، أو بسلطته، او بعقله، الى جانب الضعيف في جميع هذه الأشياء. وهو ما يعدم الأمل في الغد الى جانب اليوم.
الفساد السياسي مؤقت. والفساد الثقافي مؤقت ايضا ولكنه أطول عمرا. ذلك ان الحكومات تأتي وتذهب بيسر، بينما يصعب تغيير "الثقافة": أي البيئة العقلية والوجدانية التي يصنعها المثقفون ورجال الدين. فالأفكار والقيم الموجِّهة للسلوك البشري لا تنقلب بين يوم وليلة، كما يحدث مع الحكومات.
الفساد الثقافي يعني فساد الأمة بالجملة. ولطالما عرفت شعوب ومجتمعات مثل هذا الفساد. وبينها أمم عظيمة شأن ألمانيا. فقد سقطت هذه الأمة في ظل النازية سقوطا مدويا. وأصبحت كلها سقوطا. لم تعد هناك فيها قوى تقدمية وأخرى رجعية، أو قوى محافظة وأخرى مُجددة، أو وحشية وإنسانية. فقد عمت عليها همجية النازية وأعمتها. وفي تلك المرحلة اختارت اعداد غير قليلة من شريحة المثقفين الألمان خيانة دورها باصطفافها مع النازية. صاروا "مثقفين عضويين" في حزب هتلر أو تياره.
أما المثقف الألماني المتنور فلم يجد قوة تقدمية، مجددة، أو انسانية، لكي يدعمها، ويصير بهذه الطريقة "مثقفا عضويا" في اتجاهها، لتمثيلها مصلحة الوطن والانسانية. ولذلك آثر الانسحاب، أو اللجوء الى أي طريقة تحصنه من موجة الفساد الكاسحة. وكان بين هذا النوع الرافض لتلك العاصفة الهوجاء من واجه أقدار السجون او الموت، أو سلك دروب العزلة والمنفى. وبعضهم الموهوب أو العبقري فتح حسابا شخصيا وأخذ يدخر فيه الى أن كوَّن ثروة روحية. وذلك ليقول أن ألمانيا ليست فقط ما هي عليه من انحطاط في تلك المرحلة. وانما لديها مقابله فكر وأدب وسمو موجود بنفس تلك المرحلة. وكانت رواية (لعبة الكريات الزجاجية) لهرمن هيسة من بين ألمع الأمثلة على ذلك. كانت "موسيقى أفكار" جليلة كتبت في مرحلة وضيعة.
إن الفساد الشامل أنواع مختلفة. احدها ذكرتُه مرةً وأعود اليه اليوم. وهو مَثَلٌ "تصوَّره" كاتب ألماني أيضا. قال ما معناه انك اذا وجدت في بلد شعبا بيوته كلها مدججة بالأسلحة المشحونة المتأهبة، وفيه بالليل حراس لا يكلون ولا يملون، فهل يخطر ببالك شيء آخر سوى أن البلد كله يسكنه قطاع الطرق؟
ترى هل تختلف حال العراق اليوم عن حال البلد الذي تخيله ذلك الكاتب الألماني سوى أن "الحراس" زادوا فجمعوا النهار مع الليل؟ بل وأمعنوا في الزيادة حتى توغلوا في البيوت من خلال الفضائيات. هذه عشر سنوات مرت ومدن وبيوت العراق العربي مغمورة بالعسكرة والأسلحة. فما هي هذه السياسة التي جعلتنا بلد قطاع طرق؟ وأي مثقف او رجل دين يقبل على نفسه أن يشغل وظيفة "مثقف عضوي" في هذه السياسة؟
للأسف استطاع حكم صدام، وهو نظام جريمة معممة، توظيف عدد استثنائي من المثقفين، يمكن أن يدخل به موسوعة غينيس للأرقام القياسية. فتعرضت بذلك الثقافة العراقية الى اصابة بالغة. وبكل أسف لم نشف من تلك الاصابة. لم نكتسب مناعة كافية ضد السياسات المجرمة شأن سياسة قطَّاع الطرق في هذه المرحلة.
سياسة قطَّاع الطرق
[post-views]
نشر في: 30 نوفمبر, 2012: 08:00 م