كنت أتحدث في مكان عام صباح الأحد عن مجريات سنة 2012 التي بدأت بإجراءات إعدام نائب رئيس وانتهت بدبابات عند السفح الكردي، وأن رئيس حكومتنا اعاد تعريف قواعد اللعبة وأعاد تعريف قواعد الحوار على نحو مستحيل. فسألني شاب بين الجمهور: لماذا يصيبني كلامك بالرعب؟ لقد كان هذا السؤال قبل ان يرتجل السيد نوري المالكي خطابه صباح الأحد أيضاً!
وقد اتصلت بثلاث رجال ونساء مهمين وبارزين بعد سماع خطاب السلطان، وسألتهم بدوري: لماذا شعرت بالرعب وانا اتابع كلامه، علما ان الاصدقاء يتهمونني بعدم تقدير أسباب الخوف وبالتساهل في رسم مدى الأخطار وبالتقليل من شأن دواعي الهلع؟
الثلاثة كانوا من وسط العراق وشماله وجنوبه، وكلهم بارزون شجعان، وكلهم أيضاً قالوا لي انهم يشعرون بذعر بعد انتهاء خطاب سيادته. وسبب الذعر هنا ليس شخصيا أبدا، فكل واحد من هؤلاء يمكنه حزم حقيبته والرحيل الى الابد نحو مكان بعيد، الا ان المشهد بدا وكأن "الآمر الناهي" في بلادنا والممسك بصغائر الامور وكبائرها، يفقد تماسكه ويقرر حرق كل السفن والمراكب والزوارق.
انني اشعر بالخطيئة حين اصنع التشاؤم في روح بشرية. لكنني اشعر ايضا بضرورة ان نعيد تعريف التفاؤل، اي ان نصنع نسخة عراقية من تفاؤل ممكن ليس وهميا. ونحن اليوم أمام مجموعة حقائق يصعب إنكارها.
اولها ان الديمقراطية والتعددية ليسا شأنا ترفيا لبلد مثل العراق. الدكتاتور حين يظهر ثانية سيسوق البلاد برعونة في الغالب، إلى اتعس المصائر. ان البلدان التي تقودها الدكتاتوريات يصنع تاريخها شيئا يشبه القمار و"اليانصيب" فإذا كان الدكتاتور حكيما مثل بعض شيوخ الخليج، حدث فرق كبير في حياة الناس وأتيحت لهم مصائر معقولة. اما اذا كان الدكتاتور ارعن ومتسرعا لا يسمع سوى حديث نفسه، فإن الشعب سيقيم في الحضيض. وحظنا في العراق إن دكتاتورنا في الغالب يفتقد الحكمة (ولا اقصد سلطان اليوم لأنه لم يصبح دكتاتورا بعد وهو مجرد قائد غاضب ولديه مليون جندي وجبال من العملة الصعبة وسلاح أميركي يصيب المرء بالزهو).
لذلك فإن الديمقراطية ليست ترفا أو حاجة بطرانة، بل هي مدخل للمصير. وكل "ديمقراطيي" عمليتنا السياسية يعلمون أن الديمقراطية لم تتأسس بعد في العراق، وانما تخلصنا من الدكتاتور وبات لدينا واقع اسمه "التعددية السياسية" المرافقة للانتخابات. وهذه التعددية تعني منع ظهور شخص واحد يتحكم بثلاثين مليون نسمة فسلطاته مقيدة ببرلمان واحزاب منحت الشرعية لمنصبه، وذلك كله مدخل شرعي معقول لديمقراطية المستقبل بمعايير الحداثة، والكفاح البشري والتطور السياسي والعلاقة الصحيحة مع الدول المتقدمة امور يمكنها ان تساعدنا على تحويل التعدد الى معايير دولة حديثة تتداول السلطة رسميا وتتبنى الانفتاح في السياسة والاقتصاد والاجتماع.
وفي اطار هذه الصورة يكون خطر خطاب السيد نوري المالكي، انه اعلان متسرع عن رفض التعددية السياسية، وتكون حكومة الأغلبية التي يبشر بها ويفهمها بطريقة خاصة ايضا، مدخلا شرعيا نحو الدكتاتورية. خاصة انها حكومة لن تمثل أحدا سوى دولة القانون (ولا ادري كيف) وستواصل الاعتقاد بأن البرلمان يمكن لجمه بالمحكمة الاتحادية، والاقاليم يمكن ضربها بالدبابات، والأحزاب الشيعية يمكن ردعها بالاعتقالات والملفات. وعلاوي يمكن "تفصيخ" قائمته بالترهيب والترغيب. ونتيجة هذه المعادلة اننا يمكن في لحظة ان نعود محكومين برجل واحد يقودنا من "نصر الى نصر"، وستبدأ الانتصارات من ملف الحريات الى علاقاتنا الدولية وصولا الى الاقتصاد والاستثمار، لنكون شعبا يأكل ويشرب حسب مشيئة عليا كما في غابر الأزمان.
ان الذعر الذي يصيب الشجعان في لحظة كهذه، يقوم على حقيقة ان الساسة حين ينتابهم الغضب يكون لديهم نوعان من رد الفعل. الأول أن يتحكموا بغضبهم ويفتحوا كل هواتفهم ليشاوروا الجميع فيما ينبغي فعله. وهؤلاء في الغالب لا يتورطون في شر كبير لان الحوار مع شركائهم وخصومهم يقوم بتفكيك هذا الغضب وعقلنته ويجعلهم يعثرون على أكثر من سيناريو للحل. أما رد الفعل الثاني للسياسي حين يغضب فهو ان تؤدي عصبيته الى جعله يغلق كل هواتفه ويمتنع من الحديث مع اي نوع من العقلاء. ذلك انه ينتشي بغضبه وجنونه ويعتقد انه مؤشر بطولة ولحظة تفوق نادرة ستتيح له ان يتحول الى رجل ملحمي ينتمي لأساطير الفرسان الغابرين. ما حاجته الى هواتف غيره اذن ولماذا لا يفتح النار على الجميع؟ هل سيحاورهم كي يجعلونه يهدأ ويصادرون فرصة تحوله الى فارس اسطوري؟
لكنني لست متشائما. انني وآخرون وكما قلت لصحفي أميركي نابه قبل يومين، نحاول العثور على صيغة تفاؤل خاصة سأحاول أن اكتب عنها غدا، عبر تجربة جيل عاش "بين دبابتين" واستحالت عليه الآمال.
ومع ذلك فأنا أخشى ان خطاب رجلنا صباح الاحد كان في لحظة "إغلاق جميع الهواتف". واذا كنا نقول ان سنة 2012 بدأت بإعدام نائب رئيس وانتهت بدبابات قرب السفح، فأخشى ان تفاجئنا الأيام المقبلة بما هو أدهى. حين تغلق هواتفك يصبح كل شيء ممكنا!
لماذا أغلق المالكي هواتفه؟
[post-views]
نشر في: 2 ديسمبر, 2012: 08:00 م