3- الفضائيات العربية والدور المرجوّ
لم تنشأ الفضائيات العربية لكي تكون فضاء للهو والتسلية والعبث والتلاعب بمشاعر المشاهد العربي وتهميش حسه الجمالي الثقافي والسياسي، بل إن مهمتها أسمى وأعمق من ذلك بكثير، فهي مدعوة إلى المشاركة في حماية الإرث الثقافي التاريخي من الضياع، والإسهام في صنع المسار الثقافي العربي الجديد في إطار الخطاب المستجد للعرب على أبواب الألفية الثالثة، بمواجهة طغيان العولمة الثقافية التي تسعى إلى خلق منظومة ثقافية متكاملة لواقع اقتصادي طاغ ومهيمن للقطب الواحد، فالخطاب العربي البديل لا يمكن تصوّره بمعزل عن قيم الانفتاح وثقافة المجتمع الدولي، فقد بات من الضروري أن يحدث التفاعل بين ما نفكر به وبين ما يفكر به غيرنا، بين ما نطمح إليه وبين ما يطمح إليه غيرنا في نطاق هذه القرية الكونية الصغيرة، من هنا فان الضرورة الثقافية والحضارية تحتم على تلك الفضائيات السعي الى الاستثمار الأمثل لاعادة تقديم صورة نظيفة عن حضارتنا في عصورها الزاهية بالاستفادة من المعطيات التقنية الحديثة، وتبيان مدى الإسهامات العربية الحضارية القيمة التي أغنت رصيد الحضارة الإنسانية، فالفضائيات العربية أمامها مهمة رسولية تتمثل في إبراز عراقة وأصالة وغنى وانفتاح ثقافتنا في وجه التعتيم الذي يواجه تلك الثقافة بعد الحادي عشر من أيلول - سبتمبر 2001.
إن الهجمة الشرسة على المنطقة تحت غطاء مكافحة الإرهاب تحمل في طياتها الكثير من التجني والرغبة في إحكام السيطرة من جديد على مقدرات المنطقة وإخضاعها للمزيد من الضغوط بغية إعادة تشكيلها جغرافياً وسياسياً، بما يخدم مصالح الغرب، عبر إشاعة الفوضى الخلاقة، والانتهاء من مشكلة الشرق الأوسط نهائياً ودفن المشروع العربي الوحدوي لصالح هيمنة إسرائيلية مكتملة ونهائية، وفتح الطريق من ثم نحو الشرق الأقصى لتأمين المصلحة الأمريكية وسيادة نفوذها الاقتصادي والسياسي على العالم لقرن كامل.
4 - الفضائيات العربية وثقافة التغريب
تعتمد الفضائيات العربية اعتماداً رئيسياً على الإنتاج الأجنبي واللغة الأجنبية في ظل غياب وضآلة الإنتاج العربي الجيد والكافي، مما يدفعها الى ملء الفراغ بالاعتماد على الإنتاج الغربي وأساليبه الإعلامية، مع ما يتضمنه هذا الإنتاج من منظومة قيم اجتماعية وأخلاقية وفنية تتعارض في غالبيتها مع منظومة القيم السائدة في العالم العربي، ويصل حجم الإنتاج الأجنبي المقدم عبر عدد كبير من القنوات العربية في الغالب الى 80%، مما يلقي ظلالاً من الشك حول السياسات المتبعة في البث التلفزيوني ويسلط الضوء على المشكلات الناجمة عن هذه الكثافة على الصعيدين الاجتماعي والتربوي في المجتمعات العربية المحافظة.
ويدل هذا على أن الفضائيات العربية التي تسهم في سياسة التغريب لم تستطع بناء شخصيتها الإعلامية العربية المتحدة بعد، إضافة الى ذلك، فإن ما يزيد على الثلاثين في المائة من البرامج المحلية مستنسخ عن أفكار أجنبية بالحصول على حقوق الامتياز او بدونها، مما يحدد حجم الانسياب الإعلامي الغربي الى مجتمعاتنا بوتائر مختلفة وباتجاه واحد من القوي باتجاه الضعيف، بحيث يتحول هذا الانسياب الى شكل من اشكال الغزو الثقافي المنظم للمنطقة العربية بارادة وقبول ذاتيين وعدم اعتراض من الجهات المسؤولة والذي بدأت عوارضه بالظهور، خصوصاً بين صفوف الناشئة من الشباب الذين لم تتشكل لديهم المناعة الثقافية بعد، والذين اصبحوا ضحايا حالة الاستلاب الثقافي والضياع والتغريب الجمالي وعدم الانتماء والدخول في حالة من انعدام الوزن، وقد بات واضحاً ذلك في مستوى خسارتهم للغتهم العربية وانتقالهم للتعبير باللغات الاجنبية في حياتهم اليومية وابتعادهم عن قيم المجتمع الذي ولدوا فيه وفي تقبلهم لافكار وقيم جمالية واجتماعية غريبة عن بيئتهم الثقافية اسهمت الفضائيات دون قصد في زرعها في نفوسهم خلال مراحل التكوين من خلال الكم الهائل من الافلام والمؤثرات الفنية التي تقدم اليهم كزاد ذهني باستمرار، من شخصيات ديزني الى رامبو وترمينيتر وغيرها.
5- الفضائيات والبدائل الإعلامية العربية
لقد بات من الملح عند صياغة أي خطة إعلامية البحث عن توفير البديل الاعلامي العربي، الذي هو السبيل الوحيد في مجابهة الغزو الفكري والابتعاد عن ثقافة التغريب ومحاولات الهيمنة الثقافية، إن ادراك تلك الخطورة يجب ان يدفع الجهات المعنية والمسؤولة عن الإعلام الى اطلاق حالة الابداع، عبر إنتاج مرئي يستطيع ان يلبي حاجة المجتمعات العربية المتزايدة، لكافة الاعمار والمستويات وإيلاء هذا الإنتاج الاهتمام والرعاية والترويج اللازم، كما يتطلب دعم المؤسسات الإنتاجية الرصينة وتشجيعها وتأمين كافة الظروف الموضوعية الكفيلة بإنجاحها والأخذ بيدها لتحقيق المنافسة المطلوبة مع الإنتاج الأجنبي وتأمين فرص العمل لآلاف المواهب العربية الشابة من خرجي المعاهد الفنية والكوادر الفنية التي تسلك طريق الهجرة بحثاً عن فرصتها المناسبة لتضيف الى جانب هجرة العقول هجرة المواهب المبدعة في مختلف المجالات.
ان باقة من أهم فنانينا وشعرائنا وأدبائنا وكتّابنا وتشكيليينا وموسيقيينا وخطاطينا يعيشون في الغربة بعيداً عن تراب الوطن وخميرته الابداعية بسبب حالة الاختناق الثقافي التي تهيمن على المنطقة العربية لأسباب باتت غير مجهولة. بالرغم من أصالة التجربة العربية النية، فان المكتبة العربية زاخرة بأكثر من تجربة جدية في مختلف الفنون التلفزيونية من الدراما الى الافلام التسجيلية والوثائقية والروائية والبرامج الثقافية والاستعراضات الناجحة، غير ان الهيئات المنتجة تجد نفسها اليوم امام حالة تشبه الإفلاس والعجز امام طغيان الإنتاج الأجنبي وسهولة انسيابه وعرضه على شاشات المحطات العربية في سياسة تخل عامة وواضحة تجاه الإنتاج الوطني مع بعض الاستثناءات في بعض الأقطار العربية التي تشهد نهضة درامية واعدة.
6- الفضائيات ومصادر تكنولوجيا الفضاء
غير أن الإشكاليات لا تتوقف عند مسألة إنتاج المادة الإعلامية والفنية وتسويقها فقط بل تتعداها الى الجانب التقني، والذي هو حصيلة تطورات متداخلة علمية وتكنولوجية باتت اساس النهضة الإعلامية الدولية، وهي حاجة ملحة ومستمرة بالنسبة الى الاعلام العربي الذي بات اعتماده عليها كبيراً وغدت حاجته اليها تجعله يرتبط بمصادرة انتاجها في الغرب، وهذاما يزيد في تبعية الاعلام العربي لمصادره التقنية وخصوصاً البث الفضائي، وكلفاته الكبيرة التي تدفع بالبعض الى استيراد نفايات الاعلام الغربي التقني وادواته التي تم استهلاكها ودخلت دائرة الحاجات المستعملة والقابلة للتصدير الى العالم الثالث.
ان مجمل مراحل البث الفضائي العربي يرتبط تقنياً وهندسياً وعلمياً بالمرتكزات التكنولوجية الغربية، وهذا يعني انه اذا كان الاختلال الاتصالي قائماً بين الدول الصناعية والدول النامية في إنتاج المادة الإعلامية وحركة انسيابيتها وفي تأمين مرحلة الاتصال الأرضي فان الاتصال الفضائي ينطوي على اختلال اكبر نظراً الى غياب الإمكانيات العلمية العربية، في مجال التكنولوجيا الفضائية من جهة، والى هيمنة الشركات الكبرى على سوق الانتاج العلمي وفرص تزويد المؤسسات العربية بالتكنولوجيا اللازمة، مما يجعل الفضاء العربي اسير التوجهات الإعلامية الغربية ورهين مصادره التكنولوجية وخصوصاً تكنولوجيا الأقمار الصناعية فالصراع الاعلامي اليوم هو احد اوجه الصراع السياسي وهو البديل الامثل للصراع العسكري.
إن التسابق الإعلامي يضع العرب امام منعطف جديد اصبحت فيه الشخصية الثقافية للأمة اداة حضور أساسية في صراع الأمم وحوارها واصبح الاعلام ظهيرها الداعم ولسانها المحاور وعقلها المفكر، وبات من المسلّم به ان الحفاظ على الاسهام الثقافي لأي شعب من الشعوب في اطار الفكر العالمي يستدعي اعلاماً ناجحاً قادراً على نقل الصورة الحقيقية لهذا الشعب وعلى مواكبة طموحاته الحضارية وتحديد ملامح دوره التاريخي المتجدّد.