(3-4)

لا أخفيكم ألمي وأنا أرى الطيور تتساقط بخراطيش الصيادين، وأنا الذي لم أقو طيلة أيام حياتي على ذبح دجاجة، ولكن ما خفف ذلك الألم هو ذهاب الذاكرة إلى بغداد وبقية المحافظات، التي تشهد يوميا سقوط عشرات الضحايا من الأبرياء برصاص أمراء الذبح، ومفخخات الإرهابيين الذين أدمنوا ذبح الإنسان من غير رادع ديني أو مانع إنساني، لان غرائزهم متخمة بسياسات التوحش والحيوانية المفرطة بالافتراس.

مررنا بقصر حمود قبل وصولنا إلى واحة من الجمال، وغابة من الفتنة، وعيون ماء تلعق من عذوبتها شفاه السحر دون أن ترتوي، وبدأ الألم يزول مع رائحة قدور طباخنا الرائع ماجد، الذي عمل برياني من لحم طائر القطا والبالغ عددها (12) طيرا، وكان الرقي وسط نهير العيون يثلج لبه الأحمر، مع بقية الزملاء الذين تركوا مياه العيون تراقص أجسادهم ، فكانوا أسماكا بشرية كبيرة بجانب الأسماك الصغيرة التي كانت تداعب ضفاف البحيرات الصغيرة التي تشكلها تلك العيون، والمصيبة أن كل ذلك الجمال بدلا من تسميته بما يليق بحسنه، ليسمى مجمع العيون التسعة بـ(الوحشية)، على الرغم من ذلك أن البعض يسميها بعيون نعمة، نسبة إلى الرجل الذي قام بحفر تلك العيون، كان الزميل الصياد يهرول وسط تلك الواحة وغايته اصطياد طير كبير وبالفعل تحقق له ذلك، واتى بصيده متفاخرا وحين سألته عن اسمه قال (العرموطي) وهو قريب الشبه بطائر الفلامنكو، لكن لونه اصفر وقام بأخذ الصور مع صيده متفاخرا.

أوصافها وطباعها

يقول رئيس جمعية الصيادين إن الصقور توصف كالرجال من خلال أفعالها، فلكل نوع خاص ميزة معينة وقابليات ينفرد بها صقر عن آخر، فقد تجد صقور تحظى بنفس التدريب والاهتمام والطعام ولكنها تختلف بأفعالها كما يقول الصياد، فهناك صقر من نفس النوع قد يصطاد ثلاث حباري في سويعات، وآخر من نفس النوع لا يستطيع صيد واحدة وقد يصل لها ويخاف منها ويعود خالي الوفاض.

فمثلا كان لدينا كان صقر صغير نسميه (تبع) طغى في صيده على الكثير من الصقور المحترفة والمعروفة بالصيد في قدرته وفنه بالصيد، وفي إحدى المسابقات شارك احد الصيادين الكويتيين بصقر (تبع حر)صغير، واستطاع به الفوز على العديد من الصقور المعروفة، وفي مسابقة أخرى استطاعت شاهينة أن تصيد حبارية وحين تأكدت من سقوطها لحقت بحبارية أخرى، واستطاعت صيدها أيضا، فالصقر الحر شديد الذكاء وسريع البديهية بردّة فعله كما يقول عبد الرحمن.

العراق مصدر البيع

وبالنسبة للمسابقات التي ذكرها عبد الرحمن يبيّن بان اغلب المسابقات تقام في دبي أو دولة قطر، اما بالنسبة للعراق فهو سوق لبيع الصقور فقط والتجارة فقط، وعزا ذلك لقلة الإمكانيات لمثل تلك المسابقات إذا ما قورنت بإمكانية تلك الدول، وبحسب قول اغلب الصيادين الذين التقيناهم أكدوا في تصريحات (للمدى ) أن الحكومة لا تدعم الصياد العراقي وترفض الاعتراف بالجمعيات، بل أنها اذا ما وجدت عند صياد عراقي بندقية صيد او شبكة تقوم بمنعها، في حين أنها تسمح وتبارك الصيادين من أمراء الخليج على ممارستها، وأنا اسمع ذلك الالم التي تبوح به الحسرات، كان رجل يشبهني على منبر خيبتي يقول يسمحون لكواتم ومفخخات وعبوات ميليشياتهم  أن تحصد أرواح النساء والأطفال والرجال والجمال، ولا يرهبون الله في سرقة المال، ويحرمون العراقيين من فسحة المتعة المؤقتة، وكأنهم يقولون لي إجباريا ما قاله الماغوط (الفرح ليس مهنتي)، ولكن من يشبهني ومن على نفس المنبر كان يصرخ مع المبتلين بوجه من يظن بأنه قائد سفينة بطانته ما قاله حافظ إبراهيم:

لا تعجبوا فمليككم لعبت به

أيدي البطانة وهو في تضليل

إني أراه كأنه في رقعة ال

شطرنج أو في قاعة التمثيل

ثروة محرومين منها

العراق وعلى الرغم من الثروات التي يمتلكها سواء كانت ثروة نفطية أو زراعية أو سياحية وغيرها من الثروات التي لا تحصى، لكن لديه ثروة كبيرة للأسف لم ينتبه لها احد، كونه موطناً للطيور النادرة من جميع بقاع العالم، وعلى الرغم من كون هناك العديد من الدول اقرب له من العراق في طريق هجرته، لكنه يفضل وجوده في بلدنا عليها، فهناك طيور تأتي من سيبريا كما يقول عبد الرحمن ترفض البقاء في دول أوربا الشرقية وإيران وتستقر في وسط وجنوب العراق، ومع ذلك كما يقولها الصيادون بحسرة أن هذا الخير يأتي غيرنا ليسلب منا طيورنا ومتعتنا،فلدينا الطبيعة والصقور والحباري وأنواع الطيور ولكنها مستباحة لغيرنا ومحرومين منها.

علما أن في بغداد فقط أكثر من (20) جمعية للصيادين، وفي البصرة سبعة، وفي السماوة وبشق الأنفس وبعد جهود وجدل طويل تمكنا من فتح جمعيتنا على الرغم من أن السماوة معروفة بكونها تمتلك أوسع مناطق الصيد في العراق، وما يحز في النفس كما يقول احد الصيادين إن الذين يأتون من الخليج كصيادين كأمراء أو مواطنين عاديين، توفر لهم حمايات خاصة من ضباط ومراتب، والدولة تدخل في الإنذار في سبيل خدمتهم، سواء في النظام السابق أو الحالي، فأيام زمان كان يأتي تلفون من عدي فيدخل المحافظ والمحافظة بإنذار لوصول وفد للصيد من الإمارات أو قطر أو من أية دولة خليجية، واليوم يتكرر المشهد بتلفون من هذا المسؤول أو ذاك.

أرقاها القادم من سيبيريا

وعن أنواع الصقور يوضح نائب رئيس جمعية الصيادين الحاج ماجد ان هناك العديد من الصقور مثل الشواهين والحرة والجرناص، وتمتاز الشواهين بسرعتها الفائقة التي تصل إلى (350) كم في الساعة، أما الصقر الحر فيتصف بالشراسة، وهو أنواع فالصقر الحر السيبيري هو أرقى أنواع الصقور، والسبب أن البيئة التي يعيشها هي من صنعت منه ذلك، حيث أن النهار السيبيري قصيرا قياسا لليل سيبريا، لذا تجده من الفجر يحاول الحصول على طعامه بشراسة قبل حلول الليل، وعند هجرته من هناك إلى العراق وقطعه لتلك المسافات الطويلة ما هو الا دليل على قوته ورشاقته وشراسته التي تجعله مرغوبا من بين جميع الصقور الأخرى.

ويختص العراقيون من بين معظم دول العالم بصيد الصقور وبيعها، واذا ما تعرض الصقر إلى كسر ريشة واحدة قد يتعالج، ولكنه إذا ما تعرض لأي جرح بسيط سيكون غير ذي فائدة، والصياد المحترف كما يقول عبد الرحمن يميز حتى أصل الصقر سواء كان إيرانيا أو صينيا أو روسيا وذلك من خلال ريشه وحجمه وشكله، والخبرة والممارسة هما ما تمنحان الصياد القدرة على التمييز بين الصقر الروسي والإيراني على الرغم من تشابههما، ويأتي ذلك من خلال عملية التهجين.

لا يأكل المطبوخ أو الفطيسة

عبد الرحمن يتذكر بألم صقره (تيمور) الذي عاش معه أربع سنوات ، وحين مات يقول زملاؤه لقد حزن هو والعائلة كثيرا، وقام بدفنه في حديقة البيت اعتزازا به وبالصلة التي ربطته معها.

وعن كيفية تهجين الصقر يبيّن عبد الرحمن أن هناك آية قرآنية واضحة في حق الطيور وبالتحديد الجوارح بما معناها (ومن الجوارح  وما امسكن حلالا عليكم بعد أن تسموا عليها)، ومأكله اللحوم أثناء تهجينه والحمام، وإذا ما شح الطعام فأرسل من يجلب لي رؤوس الدجاج المذبوح ونقوم بتهشيم الرأس بعد إزالة المنقار ثم نقدمه له، وهذا الغذاء يزوده بوتين بنسبة 100%، فالعظم والمخ يعطيانه الكالسيوم، والريش يقوي ريشه ويعطيه لمعانا خاصا، والصقر بطبيعته لا يأكل المطبوخ أو الفطيسة، ومن طبيعته أيضا حين يأكل مخ الطير وعظامه وريشه، يمتص فوائد ما أكل ويتقيأ ما لا ينفعه عند المساء، وعندما يتقيأ يمكن بعد ذلك إخراجه للصيد لكونه خفيفا وجاهزا للعمل، وفي حالة طيرانه بين البيوت لا يعود لصاحبه، اما في الجزيرة وهي ساحة عمله فيطير ويصطاد ويعود لصاحبه، لان الصقر بعد الألفة التي تعيشها معه ومن رعايتك له وجلوسك بقربه سيعرفك ويميزك، اما في استخدامه للصيد فهي قطع وجبة الطعام عنه، علما انه باليوم له وجبة أو وجبتان حسب نوعية الصقر، فالصقر الوحشي له وجبتان الأولى قبل بزوغ الفجر، والثانية قبل غروب الشمس، لان الصقر الوحشي بحياته الطبيعية يصطاد طريدته في تلك الأوقات، والصقور في ما بينها لا تتصارع إلا في حالة وجود صقر لديه صيد وآخر أقوى منه جائعا، فيقوم بالعراك معه من اجل اخذ فريسته، لذا تجد اغلب مهجني الصقور، في حالة وجود أكثر من صقر لديهم يقدمون لهم الوجبات بنفس الوقت خشية التصادم في ما بينها.

الفائدة من البرقع

حين يتم اصطياد الصقر يقوم الصياد بتقميط الصقر خشية عليه من أي ضرر جسماني، وعند القيام بتهجينه يقوم المدرب ببرقعته، حتى لا يسمع الصخب والضوضاء الموجودة داخل البيت، لكون تلك الأجواء غريبة عن حياته الوحشية التي يعيشها بين الوديان والجبال والبوادي، فهناك حيث الطبيعة التي يعيشها فانه مع حلول الظلام ينام بهدوء من غير ضوضاء المدينة التي يعيشها في حالة اصطياده، لذلك يقوم الصياد ببرقعته حتى لا يرى الأضواء وينام بهدوء، ثم أن للبرقع فائدة كما يوضح عبد الرحمن لأنك إذا ما فاجأته بفريسة مع رفع البرقع ستظل صورة الفريسة عالقة في ذهنه، وهذا ما يساعد صاحبه في الصيد، فهي عملية تهيئة أولية للصقر من اجل الصيد المدروس، وهناك صقور يجب إعادة التدريب عليها كل شهرين لكونها تنسى، ولكن هناك صقورا لا تنسى بحيث أنها ترتاح لموسم كامل لا يتوفر فيه الصيد، ولكن ما أن يحين الصيد حتى تجده حاضرا لممارسة عمله في الصيد من دون أن يصيبه النسيان.

بورصة خاصة وأسعار خيالية

احد الصقور بلغ سعره في العام الماضي (85) مليون دينار ولكن صاحبه رفض البيع، فاتفق تجار الصقور على عدم شرائه، مما اضطر الى بيعه في النهاية بسبعة ملايين دينار، فبورصة بيع وشراء الصقور مليئة بالأسرار وكذلك الأضرار كما يقول الحاج ماجد، ومن تلك الأسرار المتبعة إن الصياد الذي يصيد الصقر يمنع ويرفض أن يراه أي احد سواء كان المشتري أو أي احد آخر مهما كان السبب، لان الوسيط المكلف من قبل ملوك او أمراء الخليج بشراء الصقر بمبلغ يصل أحيانا إلى 100 ألف دولار، حين يسمع بان الصياد الفلاني لديه صقر جديد، سيحاول بكل صورة معرفة نوعه وشكله وعمره وأصوله، لكن الصياد يبقى محافظا على عدم مشاهدة احد لغنيمته، فقط يقوم بإعطاء مواصفاته بدقة وبأمانة إلى أن يقطع السعر معه، بعد ذلك يقوم بتسليمه للمشتري وأمام شهود تثبت دقة وصدق المواصفات التي ذكرها ،مع التعهد بإرجاعه في حالة وجود أي اختلاف في المواصفات التي ذكرها، وفي حالة الغش في التعامل يعاد الصقر، وكذلك يمنع التعامل مع ذلك الصياد من قبل جميع التجار لفقدان الثقة به، وأرقى أنواع الصقور وأفخرها هو من يكون رأسه بلون وجسمه بلون آخر وفي منقاره وشم وبأجنحته ريشات ذهبية اللون، وقيمة الصقر تعتمد أيضا على قياساته حيث تبدأ من اصغر حجم حتى قياس 23 سم، وأفضل الصقور المرغوبة هي من قياس 18 سم، والقياس يشمل طوله ومحيطه من الوسط.

صيدها وتدريبها

بعد صيد الصقر يقوم الصياد بتقميطه كما يلف الطفل في أول ولادته، والسبب في ذلك كما يقول عبد الرحمن لان الصقر في حالة تركه بدون التقميط، سيضرب أجنحته بالأرض مما يؤدي إلى تكسيرها، وفي تلك الحالة يصبح عديم الفائدة، ثم يقوم ببرقعته من الصباح حتى المساء، ثم يرفع البرقع عنه ويقوم برمي الطعام تحت قدميه، وتتكرر المحاولة لعدة أيام حتى يصل الصقر إلى حالة يكون فيها بانتظارك لتقديم الطعام له بيدك، بالطبع وأنت ترتدي الكف الجلدي المقاوم لمخالبه الحادة، وبعد أن يطمئن لصاحبه الذي يسمى بالصكار تبدأ مرحلة جديدة، وهي مسألة السهر معه ليلا والبقاء معه نهارا، وتقديم الطعام له وعدم مفارقته أبداً مع رعايته وقد تستمر هذه الحالة لمدة أسبوع، بعدها يعتاد الصقر على صقاره ويسلم أمره له وينفذ له ما يريد، بل ويفرح بوجوده معه سواء في تقديم الطعام له أو في ملاطفته، لكن الصقر يرفض تماما أن يمسكه احد من ظهره. يتعامل مع صكاره فقط وجها لوجه وبكل رحابة، اما مسكه من الظهر فهو خط احمر، وصاحبي يحدثني هناك صوت لملايين العراقيين يقول لساسة حكومتنا المحيرة، كفى تغرسون خناجر أزماتكم في ظهورنا، وقولوا لنا وجها لوجه ماذا تريدون؟ والى متى بامتيازاتكم تتبطرون وتفسدون وبالدين تدعون؟