مرةً أخرى، ومن جديد، يتطاير شرر الأزمة السورية، عابراً الحدود إلى لبنان، وبلغت حصيلة الاشتباكات التي اندلعت في طرابلس، منذ الثلاثاء الماضي، 12 قتيلا وسبعين جريحاً، وليس سراً أن حرب طرابلس، بين منطقتي باب التبانة وجبل محسن، تقوم على أسس طائفية بامتياز، فالأولى "سنية"، ذات أغلبية مؤيدة للمعارضة السورية، وجبل محسن "علوية"، بأغلبية مؤيدة لنظام الأسد، وعلى وقع رصاص القنص، وقذائف المدفعية تعيش المدينة اللبنانية الشمالية، تحت ثقل حضور الأزمة السورية، في كل مفاصل وتفاصيل الحياة في عاصمة الشمال، التي تحمل واجهات مبانيها لافتات تندد بالنظام السوري، وتطالبه بإعادة جثامين أكثر من عشرين لبنانياً، قتلوا في منطقة تلكلخ السورية، بينما كانوا في طريقهم لدعم مناوئي الأسد.
تؤكد اشتباكات طرابلس على التخندق الطائفي، المعروف أنه ظل جمراً كامناً تحت الرماد، حتى أتت ريح الأزمة السورية لتكشفه، من حيث حاول طرفا الصراع على السلطة في دمشق منحه هذه الصبغة، النظام الذي يحاول تخويف الطائفة العلوية من حكم السنة المقبل، إن هو سقط، وما سيليه من عمليات انتقام دموية، وبعض المعارضة، التي لم تجد لتوصيف النظام سوى أنه "علوي"، وكأنها تحاربه لهذا السبب دون سواه، وسهل هذا للمتورطين بالتخندق الطائفي في طرابلس، "كمقدمة لما سيليها"، الاحتكام إلى السلاح، دفاعاً عن الوجود والمصير.
يعتقد البعض بسذاجة، أن ما يجري اليوم في طرابلس، عابر ولن يستمر، متجاهلين الهدف الأساس للمعركة، التي يظنون أنها لمجرد الدفاع عن النفس، بينما يؤكد القادة الميدانيون، أن حادثة تلكلخ في بعدها الطائفي، دفعت المجموعات المسلحة إلى الاستنفار، خصوصاً أن بعض القتلى في الكمين هم من سلفيي باب التبانة، ويظل أن الخاسر الوحيد هو المواطن البسيط المتعايش مع مواطنته بعيداً عن الطائفية، وهو الذي ولد وعاش في حي مختلط بين السنة والعلويين، لم يكن فيه أي حساسية مباشرة كما يجري اليوم حيث لم يعد يملك اليوم غير الحسرة على أيام خلت، كان البشر فيها أكثر إنسانية، يتعايشون بحب وألفة، حتى أتت الازمة السورية لتجهز على ما بقي معلقاً من السلم الأهلي.
يعيد البعض أسباب التوتر بين العلويين والسنة في طرابلس إلى ما يسمونه "زمن الوصاية السورية"، متهمين "نظام الاسد" بتوتير العلاقة بين احياء المنطقتين المتجاورتين منذ 90 عاماً. حيث بدأ علويو "جبل محسن" يتجمعون سكنياً في بساتين الزيتون فوق "باب التبانة"، من دون أية مشكلة، آنذاك اهتم أهل المنطقة بحاجاتهم الاقتصادية فأسسوا متشاركين مشاغل خياطة وصل صيتها الى كل لبنان لجودة انتاجها. لكن الوضع تغير مع الحرب الاهلية، إضافة الى الأزمة السورية اليوم والتي تلقي ظلها الأسود على سكان المنطقتين دون تمييز بين مؤيدي النظام السوري ومعارضيه، لتفتح أزمة " تلكلخ" القبور أمام فقراء المنطقتين، الذين يتركون لمصيرهم مع كل ازمة جديدة.
قلنا سابقاً، ونعيد اليوم، أن البعد الطائفي لما يجري في سوريا، أكثر خطورةً وأبعد أثراً من كل التداعيات، فالمؤيدون لنظام الأسد منحصرون في طائفة بعينها، من إيران، مروراً بالعراق، ووصولاً إلى ضاحية بيروت الجنوبية، والمؤيدون لمعارضيه يقفون على الضفة الأخرى، في السعودية وتركيا، وعند تنظيم الإخوان المسلمين، وبين هؤلاء جميعاً، تضيع مطالب السوريين في الحرية والديمقراطية والتعددية، رغم أنهم يدفعون الثمن من دماء أبنائهم، الأغلى من كل الاقتصاد المدمر، نتيجة الحرب المستعرة منذ ما يقارب العامين، والأغلى حتى من سلاح "حماة الديار" الذي دفعوا ثمنه، ليجدوا أنفسهم اليوم ساعين إلى تدميره، قبل أن يدمر حياتهم.
الخطوة الأولى للحرب الطائفية في عموم المنطقة، انطلقت شرارتها في عراق ما بعد صدام، غير أنها خمدت، لتشتعل من جديد في سوريا، وهي تنتقل اليوم إلى حدودها مع لبنان، وعلى العقلاء إن كان هناك عقلاء، الإجابة عن سؤال، أين ستكون خطوتها التالية؟.