المتأمل في سلوك البشر حوله، سواء الجيران في السكن أم الزملاء في بيئة العمل أم الجمهور في مراكز التسوق أم في الشارع، سائقي السيارات ومرتادي المقاهي والمطاعم والعاملين فيها، المصلين في المساجد وحتى أئمتها : مشجعي كرة القدم في الملاعب واللاعبين أنفسهم. قد يتساءل المتأمل المتفحص: لماذا السلوك العدواني المؤذي غير المبرر عند كثير من تلك الفئات؟ أقول له: احذر، فأولئك (سايكوباثيون).
كلمة (سايكوباث) اسم مصطلحي مقتبس من اللغة الإغريقية القديمة. ويتكون من شقين، الشق الأول للكلمة الإغريقية (سيكي) يعني (النفس أو العقل)، والشق الثاني (باثوس) يعني (المعاناة أو الألم) وقد اصطلح طبيا على استخدام البادئة: (باثو) للدلالة على (المرض) ، وعليه صار علم الامراض يسمى (باثولوجي) ، وربما تكون عبارة ( ذوي النفوس المريضة) تعريبا مناسبا لكلمة (سايكوباث) في صيغة الجمع .
والسايكوباثيون أشخاص غير أسوياء ، ينزعون الى السلوك الإجرامي، وتتشكل ميولهم المريضة منذ الطفولة ، وربما يرثون صفات وراثية من والديهم، او يعزى سلوكهم إلى تأثيرات عصبية او هرمونية ، وقد تؤثر في تركيبتهم الإجرامية الظروف البيئية والتربوية التي يتعرضون إليها خلال النشأة الأولى.
وهم يجيدون تمثيل دور العقلاء ، بل أنهم يتمتعون في الغالب بذكاء يفوق المعدلات السائدة بين الأشخاص الطبيعيين، مما يكسبهم المقدرة على التأثير على الآخرين والتلاعب بعواطفهم وأفكارهم، ويستمتع صاحب الشخصية (السايكوباثية) بإلحاق الأذى بمن حوله، وبخاصة الأقرب فالأقرب، ويتميز بعذوبة الحديث ، يعد كثيرا ويخلف وعوده ولا يفي منه بشيء. يبهر الآخرين بلطفه وقدرته على استيعاب الغير ، وبمرونته في التعامل وما يبديه من شهامة ، بيد انها لا تعدو ان تكون ظاهرية ومؤقتة مثل وعوده البراقة. وتنكشف حقيقته مع طول التعامل او بسؤال من يعرفونه عن كثب ، حيث يتبين اضطراب حياته المليئة بتجارب من الفشل وخيبة الامل والتخبط والأفعال المشينة.
السايكوباثيون لا يهتمون إلا بأنفسهم وملذاتهم، وينتهي الامر بالبعض منهم الى السجن ، وقد يصل بعضهم الاخر الى ادوار ومراكز قيادية في المجتمع نظرا لأنانيتهم المفرطة وطموحهم المحطم لكل القيم والعقبات والتقاليد والصداقات في سبيل الوصول إلى ما يريدون تحقيقه ، لا يرقبون في الآخرين إلا ولا ذمة ولا يعرفون الرحمة والشفقة ، ولا يمتلكون هواجس الدين والضمير والأخلاق والعرف في سبيل تحقيق غرائزهم وما تشتهي انفسهم يغيب الشعور بالذنب او الندم او تأنيب الضمير الذي يشعر به الإنسان الطبيعي .
توصلت بعض الدراسات الى ان نحو 25 من المجرمين والمخالفين للقانون كانوا ( سايكوباثيين ) ، كما توضح الإحصائيات العلمية ان نصف بالمائة الى واحد بالمائة من سكان العالم يحملون صفات وجينات وراثية تؤدي إلى ( السايكوباثية) أما القرآن الكريم فيؤكد على أكثر من ذلك بكثير ، ( ان النفس لإمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ) يوسف (53)) .
ويتعود ( السايكوباثيون ) على الكذب والاحتيال منذ نعومة أظفارهم، كما يتعلمون الإيقاع بين زملائهم الأطفال ويميلون إلى المشاجرة والعنف والإيذاء، والاستمتاع بتعذيب الحيوانات الأليفة. وتستفحل هذه الصفات وترسخ كلما كبر أولئك الأطفال، ويصبح الكذب شيئا ثابتا في حياتهم ونمطا من أنماط سلوكهم، حتى ان لم يعد عليهم بأي فائدة، فهم يكذبون لمجرد الكذب ويسرقون التافه والثمين من الأشياء، وينافقون ويتسلقون على ظهور الاخرين ويسعون إلى إيذاء الذين من حولهم حتى يفسحون الطريق لأنفسهم ويشيعون غرائزهم ونزعاتهم. والاهم من كل ذلك أنهم لا يشعرون بالذنب تجاه ما يقترفون وما يلحقون من أضرار ومصائب بالآخرين.
وقد استقر البعض على جملة من الخواص التي يتميز بها السايكوباثيون، وتتمثل في ذكاء اعلى من المتوسط مع جاذبية مصطنعة وعدم الثبات على نمط واحد في السلوك ، الكذب وعدم الإخلاص، غياب واعز الضمير والخجل ، الشك في الاخرين دون المقدرة على الحكم الحقيقي ، الفشل مع الزوج او الصديق بسبب الأنانية، سلوك نرجسي ، سلوك مضاد للمجتمع ، ضعف الاستبصار ، ضعف الاستجابة للعلاقات العامة ، ضعف الاستجابة الوجدانية، محاولات الانتحار غير الجادة . وهم فوق ذلك لا يعانون من الهذيان ، ولا التفكير غير العقلاني ، ولا القلق . ويجيد السايكوباثيون التعبير اللفظي عن الانفعال الملائم تجاه موقف معين ، بيد ان ذلك لا يكون حقيقيا او صادقا .
وقد يقدم السايكوباثيون على القتل لتحقيق مرادهم ، ويمكنهم ذكاؤهم ومقدرتهم على التحايل من تظليل العدالة والإفلات من القصاص . ولا أمل في علاج السايكوباثيين ، ولذلك سنت قوانين في بعض الدول تقضي باحتجاز كل من يثبت انه يعاني من الشخصية السايكوباثية لدرء الضرر عن سائر أفراد المجتمع.