الدعم اللوجستي، الذي تحظى به اعتصامات وتظاهرات ميدان التحرير، أحد المؤشرات العيانية على دينامية المجتمع المدني وقوته النسبية في مصر. هذا الدعم يتمثل بتوفير مستلزمات الغذاء والدواء والطبابة والخيم والمنشورات واللافتات. وهي أشياء بسيطة لا تكلف اموالا طائلة، ولكنها ليست ممكنة دون مال ينفق، ودون جهات تدعم وتتبرع.
وهذه الجهات الداعمة تتمثل برجال أعمال ذوي أحجام مالية كبيرة غالبا. وهم ليسوا محسوبين دائما على أحزاب معينة، بمقدار ما هم مؤيدون لحركة الاحتجاج المدنية التي ضمت كل ألوان الطيف السياسي المصري المعارض لسلطة وتوجهات أحزاب ومنظمات الاسلام السياسي. وهو ما يعني أن هناك تجارة "علمانية" أو "مدنية" التوجه، أي وجود رجال أعمال ذوي نفوذ في القطاع الخاص، يعتبرون أنفسهم جزءا من هذا الاحتجاج، ويرونه معبرا عن مصالحهم. والمجتمع المدني في المقام الأول هو القطاع الخاص، أو السوق، الذي بسببه وبدعم منه عادة تظهر وتقوى المنظمات غير الحكومية المعروفة باسم منظمات المجتمع المدني.
ويكسي دعم القطاع الخاص هذا حركة الاحتجاج المدني في مصر طابعا وطنيا يميزه عن أحزاب ومنظمات الاسلام السياسي. فالمعروف أن هناك جهات خليجية معينة تدعم "الاخوان المسلمين" وجهات خليجية أخرى تدعم السلفيين. وهذا بالطبع مع وجود رجال أعمال محليين داعمين للإسلام السياسي، ولكن الدعم الأكبر يأتيهم من الخارج.
ويلعب المال والدين عادة دورا حاكما في الشرق الأوسط. وكلاهما يعطي للاسلاميين في مصر، كما في غيرها من بلدان المنطقة، نفوذا وسط الجمهور، خاصة المحروم والريفي، لا تستطيع القوى المدنية مجاراتهم فيه. والمال الخليجي لا يصعِّب المعركة على التيار المدني فحسب، وانما يجعل منها معركة اقليمية وتاريخية بمقدار ما هي مصرية وآنية.
ولكن على الرغم من عناصر قوة الاسلاميين الكبيرة، المال والله والخبرة الطويلة لتنظيم "الاخوان" واخيرا السلطة، فإن حجم الاحتجاج المدني يعكس فرادة قوة المجتمع المدني في مصر بالقياس الى جميع الدول العربية الأخرى. وهي قوة تتمثل أبرز مظاهرها في صناعات السياحة والإعلام والسينما. ولجميع هذه الصناعات التي تتقوت منها الملايين مشاكل مع التيار الاسلامي.
ولعل قوة هذا المجتمع المدني، والأشكال السياسية والفكرية المعبرة عنه، تتضح بالمقارنة مع بلد مثل العراق. فقد استطاع المال الايراني صناعة أحزاب ووسائل إعلام سيطرت على الفضاء السياسي والصحافي العراقي في أقل من عامين بعد سقوط صدام. فمهمة تلك الأموال كانت سهلة لأن نظام صدام كان قد أنهى المجتمع المدني، وصفَّر السياسة، وخلف فراغا شاملا على كل الصعد. وتمثلت احدى نتائج المال السياسي المتدفق من الخارج بتغيير نمط الحياة العلمانية الى حد كبير في العراق.
والخشية من حدوث تغيير مماثل في نمط الحياة أحد أهم الأسباب المغذية لحركة الاحتجاج المدني في مصر. فهي تجتذب معظم شرائح الطبقة الوسطى. والمفارقة المأساوية هي أن القطاع الخاص الذي اعتبرته الثورة الناصرية معقل الرجعية، أصبح ركيزة "الثورة المدنية" على مشروع الاستبداد "الاسلامي".
والحال فإن أحد وجوه حجم مصر وتأثيرها الأكبر في المنطقة يتمثل بقوة دفع مجتمعها المدني للعلمانية، أو المدنية، في حين أن المجتمعات المدنية في البلدان العربية الأخرى هشة وضعيفة، الى درجة فقدان القدرة على اصدار جريدة، ناهيك بالدخول في صراعات السياسة. وهي فوق ذلك مضغوطة بالعنصرين الحاكمين في المنطقة: الأموال المشبوهة والدين المسيس.
المال أيضا منقسم
[post-views]
نشر في: 9 ديسمبر, 2012: 08:00 م