ما زلت طامسا في متعة قراءة الكتاب الانجليزي عن لهجة بغداد، الذي حدثتكم عنه قبل أيام. سحرتني الطريقة التي بنى بها المؤلف قواعد العامية البغدادية ودقته في اختيار الحركات والحروف والألفاظ. القواعد والتمارين، التي يهدف من وراءها الكاتب لتعليم أصول لهجة بغداد للناطقين باللغة الانكليزية، كانت في الجزء الأول. أما الجزء الثاني، وهو الأمتع برأيي، فقد قُسّم إلى أبواب تناولت مشاهد وصورا من الحياة البغدادية والنكات والتمثيليات وباب "الحجايات والسوالف" والأمثال وأخيرا باب الأغاني الشعبية.
تذكرت تلك الأغاني وأيامها فمثلت أمامي بغداد الخير: سمر سمر، حنة حنة، بيا عين جيتوا تشوفوني، أنا بيا حال؟ ومجموعة من المونولوجات التي كانت تشكل، في زمن ما، واحدا من أجمل معالم الغناء العراقي. لم يغفل الكاتب ذكر اسم المطرب والملحن والمؤلف لكل أغنية.
لأول مرة أجد نفسي أغني أغنية عراقية بالانكليزية. كل مقطع فيها يبهرني بدقة الترجمة:
O dear little dark one, God be with you! Please, wait, please wait
Does your heart love another? Or only me, or only me
هل عرفتموها؟
إنها المقطع الثاني من أغنية "سمر سمر" التي كتبها سيف الدين ولائي ولحنها وغناها المطرب رضا علي:
يا سميرة الله وياج دتأملي دتأملي
كلبج يحب الغير؟ لوبس الي، لو بس الي
طعم آخر صرت أحس به حين أدندنها بالانكليزية والعراقية معا.
من بين المنولوجات استوقفني مونولوج "الجابي" لجاسم السامرائي. قرأت النص فتذكرت لحنه الجميل وطريقة أدائه القريبة للأوبريت، فطافت بي "الأمانة"، وأنا بمكاني، في شوارع بغداد. منذ صغري وأنا أحب الجابي وأنظر له كبطل. وهذه النظرة نابعة من تجربة شخصية.
قبل أن ادخل الابتدائية أخذتني، أمي وأختي من أبي، إلى مستشفى السباع كي أتلقح ضد الجدري. كنا نركب باص المصلحة. حين وصلنا اعتمدت أمي على أختي التي هي الأخرى اعتمدت على أمي لتقودني. نزلتا وتركتاني خلفهما. تحرك الباص فبكيت من الوحشة ووجوه الغرباء. ادعت امرأة بأنها أمي وأنا أصيح لا. جرني الجابي على جنب وسألها عن اسمي فأعطته اسمين ادعت بان احدهما للدلع. سألني بعدها عن اسمي فأخبرته. صاح الجابي بالناس امسكوها. وطلب من السائق أن ينتظر قبل أن ينطلق لمركز الشرطة جازما بان أمي ستلحقني. وفعلا جاءت أختي راكضة ومعها أمي فاحتضنتهما. وبعد أن أكلتا رزالة ناشفة من الجابي، راح بنا الباص صوب مركز الشرطة لنسجل الدعوى. وهناك اعترفت المرأة بجرائم سابقة لها باختطاف أطفال قبلي.
وجود الجابي كان يشعر النساء في أيامنا تلك بالأمان. وهذا ما يراه بعض الباحثين سببا في تسمية باض المصلحة "أمانة". لكن بعضاً يحيل السبب إلى أنها تابعة لأمانة العاصمة. مع هذا قد يكون كلا الرأيين صحيحا. كان الأهل لا يقبلون أن تركب بناتهم، خاصة الطالبات، بالفورتات أو التاكسيات. فذلك عندهم عيب ومثير للشكوك. عليهن أن يركبن "الأمانة" لان فيها الجابي يحميهن من كيد المتحرشين!
يالله يا جابي انطيني حسابي آني راح انزل بثاني قطعة
هذا شغلكم محد يجرعة
الله يعينك يا جابي الله ايدبرك يا جابي
Come on conductor, give me my change,
I am going to get off at the second stop
This job of yours, no one can stomach it
May God help you conductor,
May God take care of you conductor.
ألا ليت أيام الصفاء جديد ودهراً تولى يا عراق يعود
الجـابـي
[post-views]
نشر في: 10 ديسمبر, 2012: 08:00 م
جميع التعليقات 1
Abu Semir
What a beautiful Memory.