TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > دروب الفقدان

دروب الفقدان

نشر في: 10 ديسمبر, 2012: 08:00 م

سعدت بقراءة رواية عبدالله صخي الجديدة، التي ستصدر قريبا عن "دار المدى". اسمها "دروب الفقدان". وموضوعها نوع من التأريخ لشريحة اجتماعية تعيش في حي معين من أحياء "مدينة الثورة" المعروفة في بغداد. وهي "مدينة" يحكى عنها الكثير، ويسمع عنها الكثير، حتى اصبح لها صيت المدينة المستقلة، مع انها مجرد منطقة واسعة من مناطق بغداد، وإنْ كانت أكبرها مساحة، وأكثرها سكانا.

ولعل من بين وجوه تميز هذه المدينة، وفرادتها وسحرها، رفدها الفن والأدب العراقي بالكثير من المبدعين. وبطل رواية (دروب الفقدان)، علي سلمان، هو الآخر قصة محاولة ابداع في مجال الموسيقى والغناء، تنبثق من ظروف معاناة متطرفة في الفقر والخوف وعدم الاستقرار. انه أمل امه الأرملة مكية الحسن في توفير مصدر رزق آمن، وحياة كريمة.

وقد اخذ الشاب ذلك الأمل على محمل الجد، فبدأ الشغل مبكرا كعامل بناء، الى جانب استمراره في التعليم. ولكن الحلم العميق الذي أمسك بوجدانه كان يقع في منطقة بعيدة كل البعد عن الهموم المادية الثقيلة والحزينة التي تكتنف عالمه. كان ذا صوت مميز، أراد تهذيبه ودعمه بدراسة الموسيقى وتعلم العزف على احدى آلاتها. كانت حياته في أعمق طبقاته الروحية عبارة عن محاولة استجابة لنداء الموسيقى. وهذا شيء يدعو للدهشة. فكيف يمكن لحلم الموسيقى أن يسكن وجدان شاب محروم كليا من مقومات الحد الأدنى لحياة طبيعية؟

الحرمان هو قصة جميع أبطال هذا العمل. وهم كثيرون، ومن الجنسين، ومعظمهم يمتلك في الرواية قسمات وملامح أشخاص حقيقيين، أحياء، تستطيع أن تراهم، وتحس بهم، وتتأثر بهم، وتتفاعل معهم، وتعرفهم. الحرمان قصة اولئك الأبطال بالمفرد، وقصة ذلك الحي من أحياء المدينة الذي تدور فيه الأحداث بالجملة. وتملؤك الرواية شعورا بأنها تاريخ عميق وحي لمدينة الثورة. انها التاريخ الذي لا يمكن لمناهج علم التاريخ، ومضامينه، مهما اكتسبت من عوامل الدقة والأمانة والذكاء، أن تضعك على نبضه الحي وحقيقته الواقعة. وهذا، على اية حال، امتياز الفن الأصيل. فالفن ليس فقط صورة الحياة، التي يعجز العلم عن عرض تفاصيلها الحيوية والحميمة، وانما هو أيضا، بل اساسا، مضاعفة الحياة.

مع الحرمان تعيش "المدينة"على قلق غياب الاستقرار، وفزع الترحيل. فالأخبار والشائعات تشتد وتخفت، بين وقت وآخر، حول وجود النفط بكميات كبيرة تحت أرض "المدينة" واحتمال تهجير سكانها. والعامل الثالث الذي يسمم حياة المدينة، بعد الحرمان وعدم الاستقرار، هو الخوف. فالمدينة اجمالا، معارِضة، مكروهة ومهددة من السلطة. ان هوى سكانها يساري عامة وقاسمي خاصة. ومع سلطة البعث أصبح كل بطل من ابطال الرواية قصة ملاحقة وحكاية اضطهاد. لقد هيمن الخوف على سكان المدينة، وتعبدت أمامهم "دروب الفقدان"، التي شرعت في قضم مصائرهم الواحد تلو الآخر.

الوهم القومي المسلح، الذي أخذ شكل حكومة قاسية، أطبق على الوهم اليساري الأعزل، الذي يداعب خيال كائنات مسحوقة. سلطة الثورة تهرس مدينة الثورة. وهكذا فإن المدينة، فوق كل أشكال معاناتها المتطرفة من الفقر والخوف وعدم الاستقرار، تُطحن بين وهمين قاتلين. لكنها رغم ذلك تبدو، من حيث المظهر، "مدللة" السلطات المتغيرة العديدة: سميت "الثورة" في الجمهورية الأولى، وهي أصلا من مشاريع "مجلس الاعمار" الملكي، ثم أخذت تباعا اسم "حي الرافدين" زمن عبد السلام عارف، ثم "مدينة صدام"، وهي اليوم " مدينة الصدر".

انها حكايات الحب القاتل، حكايات سلطة الشعب التي تقتل الشعب. وقد نسجت أنامل عبد الله صخي خيوطها الناعمة من وقائع أيام غليظة فاتت. ولكنها أيام لم تنقطع، لأن "دروب الفقدان" مازالت وحدها سالكة في البلاد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram