لا أحب اليقين، فهو غالباً ما يشكِّل الخطوة الأولى على طريق إلغاء الآخر. غالباً ما يقترن وجوده عند جماعة ما، بامتلاكها حق الوصاية والتعالي على المختلف ومن ثم مصادرة آرائه باعتبار دونيتها، الأمر الذي يؤسس للحق بتخليصه من تبعات التزامه بهذه الآراء.. فكوني أمتلك اليقين يعني بأن المختلفين معي على خطأ، ما يوجب علي تخليصهم من هذا الخطأ. ومن ثم فهم أمام؛ أن يقبلوا بخياراتي أو يضطروني لإجبارهم على قبولها مراعاة لمصالحهم.
وبالرغم من وجود هذا الموقف العاطفي من اليقين، إلا أنني احتفظ له بفضل كبير، إذ هو الذي فتح أمامي باب الشك على مصراعيه. فخلال بحثي عن المعرفة اليقينية قرأت الأسس المنطقية للاستقراء. ومن المعروف أن مؤلف هذا الكتاب المهم، هو الفيلسوف الإسلامي محمد باقر الصدر، والمفارقة أن الفكرة الأساسية التي دارت عليها عملية إثبات اليقين في هذا الكتاب هي استغلال عدم إمكان إثباته، فقد وضَّح السيد الصدر، بأن المذاهب الفلسفية التي بحثت في المعرفة البشرية عجزت عن تبرير القفزة التي يقوم بها العقل البشري وهو ينتقل من المعرفة الاحتمالية إلى المعرفة اليقينية، أي أنها عجزت عن اثبات اليقين. وهذا العجز دفعه لاقتراح المذهب الذاتي، وهو مذهب لا يقدم تبريراً للقفزة لكنه يطالب بقبولها شأنها شأن مبدأ عدم التناقض، مثلاً، الذي يسلم به العقل ولا يستطيع تفسيره. ويؤكد الصدر أن هدفه الرئيس من وراء اقتراحه لمذهبه هذا؛ هو اثبات وجود الصانع عن طريق الاستقراء. ولكي يحقق هذا الهدف فهو يضع العقل الإنساني أمام خيارين، فيقول؛ «فالإنسان بين أمرين: فهو إما أن يرفض الاستدلال العلمي ككل. وإما أن يقبل الاستدلال العلمي، ويعطي الاستدلال الاستقرائي على اثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي» كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ص469.
معنى هذه العبارة أن الفلسفة الإسلامية التي يقدمها السيد الصدر لإثبات وجود الصانع عن طريق الاستقراء لا تنهض بهذه المهمة، لكنها تطالب بالتعامل مع استقرائها بنفس طريقة التعامل مع الاستقراءات الأخرى.. أي هي تخير المعرفة غير الدينية بين رفض جميع المعارف باعتبارها غير يقينية أو القبول بالمعرفة الدينية من ضمن المعارف المقبولة. السيد الصدر قال ذلك رغم سعيه لإنتاج اليقين باستخدام المذهب الذاتي، ما يعني إقراره بأن اليقين الذي يثبته هذا المذهب لا يقضي على الشك.
هذه التجربة دفعتني للتساؤل عن جدوى البحث عن يقين.. وفعلاً، لماذا نفعل ذلك؟ فقد أوصلتنا علومنا التي لم نتيقن من أبحاثها وقوانينها، إلى المريخ، وأنتجت لنا تكنولوجيا المعلومات والموبايل والطائرة وفتحت أمامنا أبواب معرفة الطبيعة على مصاريعها، فلماذا نصر على الوصول إلى اليقين؟ لماذا لا نقبل بعقائد ليست يقينية، خاصة وأن قبولنا بمثل هذه العقائد سيتيح لنا الاستمتاع بمزاياها دون أن نضطر إلى حرمان الآخرين من الاستمتاع بمزايا عقائدهم.
جميع التعليقات 3
حسين
لا يتحقق اليقين الا من الشك. مقال قيم وجرئ
raed albustany
هنالك الفكره وهنالك مابعدها؛اعتقد وبتواضع ان الطموح للوصول لما بعد الفكره هو الذي يولداليقين ويرسخه ولو بطريقه مخاتله للوعي فترتدي الفكره لبوس اليقين والاطلاق.
حيدر العلاق
شكرًا أستاذ سعدون على هذا المقال الجريء ولكن العجيب كيف تطالب بالقبول بعقائد ليست يقينية وقد امتطيت فرس الفلسفة وخضت غمار الحرب معها، أنها حقاً حرب تعطي اكثر مما تأخذ وتقدم اكثر مما تؤخر. فالبحث عن اليقين لا يختلف بتاتا عن البحث عن الكمال والحقيقة كلاهما