TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الأسس المنطقية للاستقراء

الأسس المنطقية للاستقراء

نشر في: 12 ديسمبر, 2012: 08:00 م

لا أحب اليقين، فهو غالباً ما يشكِّل الخطوة الأولى على طريق إلغاء الآخر. غالباً ما يقترن وجوده عند جماعة ما، بامتلاكها حق الوصاية والتعالي على المختلف ومن ثم مصادرة آرائه باعتبار دونيتها، الأمر الذي يؤسس للحق بتخليصه من تبعات التزامه بهذه الآراء.. فكوني أمتلك اليقين يعني بأن المختلفين معي على خطأ، ما يوجب علي تخليصهم من هذا الخطأ. ومن ثم فهم أمام؛ أن يقبلوا بخياراتي أو يضطروني لإجبارهم على قبولها مراعاة لمصالحهم.

وبالرغم من وجود هذا الموقف العاطفي من اليقين، إلا أنني احتفظ له بفضل كبير، إذ هو الذي فتح أمامي باب الشك على مصراعيه. فخلال بحثي عن المعرفة اليقينية قرأت الأسس المنطقية للاستقراء. ومن المعروف أن مؤلف هذا الكتاب المهم، هو الفيلسوف الإسلامي محمد باقر الصدر، والمفارقة أن الفكرة الأساسية التي دارت عليها عملية إثبات اليقين في هذا الكتاب هي استغلال عدم إمكان إثباته، فقد وضَّح السيد الصدر، بأن المذاهب الفلسفية التي بحثت في المعرفة البشرية عجزت عن تبرير القفزة التي يقوم بها العقل البشري وهو ينتقل من المعرفة الاحتمالية إلى المعرفة اليقينية، أي أنها عجزت عن اثبات اليقين. وهذا العجز دفعه لاقتراح المذهب الذاتي، وهو مذهب لا يقدم تبريراً للقفزة لكنه يطالب بقبولها شأنها شأن مبدأ عدم التناقض، مثلاً، الذي يسلم به العقل ولا يستطيع تفسيره. ويؤكد الصدر أن هدفه الرئيس من وراء اقتراحه لمذهبه هذا؛ هو اثبات وجود الصانع عن طريق الاستقراء. ولكي يحقق هذا الهدف فهو يضع العقل الإنساني أمام خيارين، فيقول؛ «فالإنسان بين أمرين: فهو إما أن يرفض الاستدلال العلمي ككل. وإما أن يقبل الاستدلال العلمي، ويعطي الاستدلال الاستقرائي على اثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي» كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ص469.

معنى هذه العبارة أن الفلسفة الإسلامية التي يقدمها السيد الصدر لإثبات وجود الصانع عن طريق الاستقراء لا تنهض بهذه المهمة، لكنها تطالب بالتعامل مع استقرائها بنفس طريقة التعامل مع الاستقراءات الأخرى.. أي هي تخير المعرفة غير الدينية بين رفض جميع المعارف باعتبارها غير يقينية أو القبول بالمعرفة الدينية من ضمن المعارف المقبولة. السيد الصدر قال ذلك رغم سعيه لإنتاج اليقين باستخدام المذهب الذاتي، ما يعني إقراره بأن اليقين الذي يثبته هذا المذهب لا يقضي على الشك.

هذه التجربة دفعتني للتساؤل عن جدوى البحث عن يقين.. وفعلاً، لماذا نفعل ذلك؟ فقد أوصلتنا علومنا التي لم نتيقن من أبحاثها وقوانينها، إلى المريخ، وأنتجت لنا تكنولوجيا المعلومات والموبايل والطائرة وفتحت أمامنا أبواب معرفة الطبيعة على مصاريعها، فلماذا نصر على الوصول إلى اليقين؟ لماذا لا نقبل بعقائد ليست يقينية، خاصة وأن قبولنا بمثل هذه العقائد سيتيح لنا الاستمتاع بمزاياها دون أن نضطر إلى حرمان الآخرين من الاستمتاع بمزايا عقائدهم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. حسين

    لا يتحقق اليقين الا من الشك. مقال قيم وجرئ

  2. raed albustany

    هنالك الفكره وهنالك مابعدها؛اعتقد وبتواضع ان الطموح للوصول لما بعد الفكره هو الذي يولداليقين ويرسخه ولو بطريقه مخاتله للوعي فترتدي الفكره لبوس اليقين والاطلاق.

  3. حيدر العلاق

    شكرًا أستاذ سعدون على هذا المقال الجريء ولكن العجيب كيف تطالب بالقبول بعقائد ليست يقينية وقد امتطيت فرس الفلسفة وخضت غمار الحرب معها، أنها حقاً حرب تعطي اكثر مما تأخذ وتقدم اكثر مما تؤخر. فالبحث عن اليقين لا يختلف بتاتا عن البحث عن الكمال والحقيقة كلاهما

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram